وضع تنظيم داعش على الصفحة الرسمية للمجلة الإلكترونية التى يصدرها التنظيم باسم «دابق» صورتين لمواطنين أحدهما نرويجى والآخر صينى، وكتب تحت الصورتين أنهما معروضان للبيع، وذيّل الإعلان بجملة تسويقية دالة بأن هذا عرض لفترة محدودة، مصمم هذا الإعلان حرص على أن تكون الصورة الإعلانية بدرجة عالية من الاحترافية، فظهر الشخصان يرتديان زياً نظيفاً باللون الليمونى، وأخذ لهما مجموعة من اللقطات الجانبية والخلفية وزعت بشكل منسق ليبدو الإعلان مماثلاً تماماً لحملات الترويج لسلعة جديدة كالهواتف المحمولة أو شاشات العرض أو ما شابه!!
اللغة المدون بها هذا الإعلان المصور هى اللغة الإنجليزية وفى أسفله رقم للهاتف والجملة التى حملت عنوان المقال بأن العرض لفترة محدودة، الموضوع بإجماله صادم للغاية وتأمل الإعلان لدقائق يصيب الشخص بكل المشاعر المتضاربة دفعة واحدة، فالتنظيم يقوم بهذا الفعل، وبهذه الكيفية للمرة الأولى منذ خروجه للنور وبدء استعماله للسلاح الإعلامى الذى نشر من خلاله بيانات التنظيم وعمليات القتل وإعدام الرهائن والذبح، وحرق ما يسمى بلغته الأسرى والسبايا، التفكيك الأولى لهذا الاستخدام الإعلامى كان ينصب فى خانة الصدمة والرعب التى كان التنظيم ينتهجها للترويج لنفسه وللممارسة بحرب نفسية ينتصر فيها بتحطيم تماسك خصومه، وحصد العديد من المكاسب بهذا النهج إبان استيلائه على المدن والمحافظات السورية والعراقية، خاصة ومن يديرون له هذه الحرب الإعلامية النفسية مجموعة محترفين لديهم خبرة فى كيفية صناعة الرسائل الإعلامية بمحتويات الصورة أو الرسالة وحجم التأثير المتوقع لدى المتلقين المستهدفين بها.
هذه المرة الرسالة الإعلامية بتلك الكيفية حملت قدراً كبيراً من الاستهانة بالمفاهيم الإنسانية وبكل الأعراف الأخلاقية المعتمدة والراسخة منذ قرون، ولا أدرى هل فعل الاستهانة هو الأقرب للتوصيف أم أن المشهد يتجاوز ذلك إلى كراهية وازدراء لتلك الإنسانية المقصودة، فلدى التنظيم أحد الكتب المرجعية الذى يحظى بتقدير من أعضائه يسمى «إدارة التوحش»، وهو كتاب شهير يتعاطاه معظم التنظيمات التى يحلو لها تسميتها بالسلفية الجهادية، والكتاب مهم بالفعل لما يمثله كخارطة طريق لتلك الجماعات المسلحة وكيفية تفاعلها وإدارتها لساحات المعارك التى ستدخل إليها، و«داعش» من خلال إعلانه عن بيع البشر قد دخل فصلاً جديداً فى ممارسة توحش نادر يتجاوز حالة الاتزان النفسى حتى وهو ينتهج إرهاباً مسلحاً، يسقط من خلاله الضحايا ويسفك فيه من الدماء ما قد أصبح خارج حسابات التقييم أو التقدير الإنسانى الفطرى.
المشهد فى زاويته المقابلة حمل أيضاً موجة غير مسبوقة من الفرار البشرى الذى خرج من ساحات المعارك الطاحنة إلى جنات اللبن والعسل الأوروبى، وبدت الموجة البشرية التى ضربت الدول الأوروبية طوال الأسابيع الماضية كأحدث لوغاريتمات الحرب على الإرهاب والأزمة السورية، وغلب على المشهد شكل الأمواج الصناعية التى حملت نوعاً موازياً لما يقوم به داعش من الاتجار بالبشر، فليس كل الاتجار بيع، فهناك أيضاً الشراء والاستخدام وهى أفعال تقترب كثيراً مما يقوم به «داعش» وإن كان بتقنيات مختلفة، فتلك الموجة الصناعية بدأت من تركيا فى اتجاه دول أوروبا التى لم تعط لها موافقة لإنشاء منطقة عازلة بشمال سوريا بذريعة دفع السوريين تجاهها فلما رفض الطلب أوروبياً دفعتهم تركيا تجاهها، ولم يجب أحد حتى الآن عن أفق متوقع لهذا التحرك البشرى الذى يحوى هو الآخر على العديد من الألغاز، فهناك ما يمكن تسميته بتفريغ متعمد للوطن السورى يسمح بالتفاوض على أراضٍ خالية من السكان بعد هذا الخلل الديموجرافى الحاد، وأطراف هذا التفاوض بدأوا بالفعل فى وضع تصوراتهم، ومنهم من استبق حل هذه الألغاز بضمان موقع أقدام على الأرض الخالية من البشر، الكل طوال هذه الأسابيع الفارقة ألقى الاتهام بوجه الكل والموضوع كله كان يدور حول البشر الهائمين والذين طالهم، هم الآخرون، اتهام التخلى عن الأرض، فالمشهد فى جانبه الداعشى صادم بالفعل، لكنه فى جانبه الآخر لا يخلو من تآمر فادح يجعل هذا العرض البشرى الكبير، يبدو ممتداً ويؤشر لفترة مفتوحة على موسم خصم الأوطان والتخفيضات الإنسانية.