مع اندلاع ثورة يناير، عاد إلى مصر خمسة من أصدقائى الإعلاميين الذين برزوا فى وسائل إعلام دولية وإقليمية مرموقة، وحققوا مكانة مهنية عالية، آملين أن يستغلوا أجواء الحرية التى ازدهرت آنذاك، والتطور والاتساع الذى طرأ على صناعة الإعلام، فى إنجاز تجارب مهنية ناجحة فى بلدهم.
لقد استشارنى الأصدقاء الخمسة قبل بدء تجاربهم فى الإعلام المحلى، ولعلهم يتذكرون الآن أننى نصحتهم بالتروى وعدم الاندفاع، مشدداً على أن الاتساع الذى طرأ على الصناعة ليس صحياً ولا مضمون الاستدامة، وأن المال السياسى الذى تدفق عليها يمكن أن ينسحب فى أى لحظة ويتركها مكشوفة، وأن قواعد الصناعة فى مصر بعيدة عن المعايير والالتزام المهنى، وأن أساليب المنافسة رخيصة، بحيث لن تنصفهم، ولا تليق بأسمائهم.
اليوم أنظر إلى أصدقائى الخمسة، فأجد ثلاثة منهم فى البيت بلا عمل، فيما الاثنان الآخران يفعلان «كما يفعل الرومان»، ويفقدان الميزة الأساسية التى يمتلكانها، لكى يضمنا البقاء على الشاشات؛ أى المهنية.
لا تخضع صناعة الإعلام فى مصر إلى أى تنظيم، وتقوم السلطات بالضغط عليها لتجييشها واستخدامها كذراع دعائية، ويعانى الإعلام العام من فقدان الاتجاه، والديون، والفساد، والترهل، ويسعى مالكو وسائل الإعلام الخاصة إلى تحقيق مصالح ضيقة على حساب القواعد المهنية، وتتحكم الوكالات الإعلانية فى مسار الصناعة وتسىء إليها.. لكن إلى جانب كل ذلك، هناك طرف رئيسى مسئول عن جزء كبير من الإشكال، لا يجد من يعلق الجرس فى رقبته، أو يلومه، أو حتى يلفت نظره.. إنه الجمهور.
حاول كثيرون الحديث عن كيفية التلاعب بالجمهور واستخدامه لتحقيق أغراض السياسة عبر تزييف الحقائق، واختلاق الوقائع، والضغط والإلحاح، ودغدغة المشاعر، لكن أحداً لم يشر إلى أن الجمهور أيضاً يتلاعب بالإعلام، ويؤثر فى أدائه، ويطرد القابضين على جمر المهنية من جنته، ويفسح المجال لهؤلاء الذين يذبحون المعايير والقواعد كل ليلة على الشاشات.
يجتهد كثيرون فى محاولة تشخيص المشكلات التى يعانى منها الإعلام المصرى، لكن أغلب هؤلاء لا يشير إلى الجمهور بوصفه أحد أكبر المسئولين عن التردى الإعلامى الذى نشهده.
لا يمكن إصلاح حال الإعلام فى مصر من دون أن يتحسن أداء العناصر الفاعلة فى إطار الصناعة؛ أى التشريع، والتنظيم، والحريات، والمالكين، والإعلاميين، ووكالات الإعلان، والمعلنين، والنقابات المهنية، والمجتمع المدنى.. والجمهور.
فحالة التلقى جزء رئيسى من صناعة الإعلام، والطريقة التى يتفاعل بها الجمهور مع المُنتج الإعلامى السيئ والمُنتج الإعلامى الجيد تطيل عمر هذا وتقصف عمر ذاك، وتكافئ هذا وتطرد ذاك.
لقد انتفض كثيرون ضد تلك المذيعة لأنها ارتكبت جريمة بحق أناس ثبت لاحقاً أنهم «أبرياء»، بأن شهرت بهم، وانتهكت خصوصيتهم، كما ثاروا ضد زميلتها التى استغلت حاجة بعض الأشقاء العرب، وصنعت من شقائهم مطية لكى توصل من خلالها رسالتها المختلة والسخيفة.
أما هذا المذيع، فالانتقادات والشتائم والسخرية لا تنقطع بحقه وحق ما يقدمه من «بذاءات» و«تفاهات»، والأمر نفسه ينطبق على زميله الذى تحول إلى مهرج فى سيرك، وزميله الآخر الذى يعتبر نفسه فيلسوفاً وقائداً مُلهماً.
لكن الحقائق على الجانب الآخر تبدو ساطعة بحيث لا يمكن دحضها أو إنكار أثرها.. فهؤلاء هم الأكثر مشاهدة، والأكثر جلباً للاهتمام، والأكثر جلباً للإعلانات.. وبالتالى الأكثر قدرة على الاستمرار، على حساب أى زميل آخر يحاول أن يتمسك بالمعايير المهنية.
لمثل تلك الاختلالات تهتم دول عديدة بمساق «التربية الإعلامية»، بل وتهتم أيضاً بتدريب الجمهور، وتحسين ذائقته وقدرته على التلقى.
لن ينصلح حال الإعلام إلا من خلال جهد متكامل يستهدف كافة الأطر الفاعلة فى الصناعة، وعلى رأس تلك الأطر جميعاً الجمهور، الذى يمتلك القدرة الأكبر على ترجيح كفة أنماط أداء معينة واستبعاد أنماط أداء أخرى من المنافسة.
والمطلوب من الجمهور مبدئياً أمر بسيط لكى نبدأ مشوار إصلاح الإعلام: توقف عن مشاهدة الإعلامى الذى تدعى أنه «سيئ»، وشاهد الإعلامى الذى تزعم أنه «مهنى».
هل تستطيع أن تفعل ذلك؟