رحيل البابا شنودة حمل عدداً من المتغيرات الأساسية، أبرزها أن المؤسسة الكنسية لم تعد شأناً قبطياً فقط، لكنها صارت موضع اهتمام عام، ينشغل بها المسلمون، ويريدون أن يعرفوا ملامح مستقبلها. فى العقدين الأخيرين، وبالتحديد منذ مطلع التسعينات، تحول الشأن القبطى إلى شأن عام، وتدافعت الصحف على نشر ما يجرى داخل الكنيسة: خلافات داخلية، محاكمات كنسية.. إلخ. بعضها كان يفعله بدافع الانفتاح على كل مكونات المجتمع، بما فيها الكنيسة، وبعضها الآخر كان يفعله بإشارات من أجهزة الدولة.
الشأن الكنسى، بمعنى من المعانى تحول إلى شأن عام. يحتل انتخاب البطريرك الجديد مساحة متزايدة من الاهتمام، ويتساءل الناس: من هو البطريرك القادم؟ هويته، ملامحه، سياساته، تصوراته؟ السؤال فى ذاته مشروع، لكنه يفترض أن الزمن لم يتحرك، ولو طرح السؤال فى سنوات حكم مبارك لكان مفهوماً، الشخصنة كانت فى أوجها، استبداد السلطة السياسية يبعث على ذلك، وكاريزمية البابا شنودة جعلت التفكير دائماً يدور حول «الشخص». الحال تبدل، وقد يكون البابا شنودة هو آخر بطريرك «كاريزما»، بمعنى الحضور المؤثر للشخص الذى يحتوى المؤسسة الكنسية، كما كان مبارك آخر فرعون يمارس حكم مصر لمدد غير محددة.
ليس مطلوباً من البطريرك الجديد فى الكنيسة القبطية أن يكون شخصية استثنائية ملهمة. قد لا توجد هذه الشخصية فى مساحة الاختيار المتوفرة، لا الزمن يسمح بذلك، ولا الظروف الموضوعية تقتضى ذلك. ثورة 25 يناير، ضمن نتائجها، قلصت «السلطة الأبوية» فى المجتمع، كل المؤسسات تختبر هذه الحالة، السياسية والدينية، على السواء. لم تعد هناك كلمة نهائية نافذة لأى جهة مرجعية.
وكما أن هناك من يقول كفى حديثاً عن «الرئيس المنقذ»، فالحديث بالقدر نفسه عن «البطريرك الحامي» الذى يتصدر للمطالبة بحقوق المواطنة للأقباط، لأن هذه المطالبة ينبغى أن تصدر من كل مؤسسات المجتمع، وليس فقط الكنيسة، ويتصدر النشطاء الأقباط الحياة العامة فى إطار الأحزاب والقوى السياسية القائمة. اللافت أن الإسلاميين، فى أواخر عهد البابا شنودة، حاولوا أن يجتذبوا الكنيسة إلى جوارهم، ويحلوا محل الحزب الوطنى المنحل، ويجعلوها ممثلاً للأقباط، وفق الآليات نفسها القديمة المتبعة إبان عهد مبارك، وهو ما ظهر فى مناسبات كثيرة، يثبت ذلك أن المسألة كانت بالنسبة للأغلبية السياسية الحالية هى وراثة نظام بآلياته وتشابكاته، أكثر من تدشين أسس جديدة تقوم على أساس من المواطنة والمساواة، وتقدير مشاركة المواطنين كافة.
البطريرك الجديد يواجه ثلاث مهام أساسية:
المهمة الأولي: ترتيب البيت من الداخل. الغالب على الخطاب الإعلامى الراهن «دور الكنيسة فى المجتمع»، ولكن ما يشغل قطاعاً من قيادات الكنيسة هو تدعيم «المؤسسية» الداخلية، خاصة بعد رحيل البطريرك «الكاريزما» الذى احتوى المؤسسة، واستدفأت المؤسسة فيه، وتعلقت به. ولم تعد الكنيسة القبطية «محلية»، لكنها امتدت بحضورها إلى قارات العالم، شرقاً وغرباً، تعمل فى ظل ثقافات متعددة. هناك من يفكر فى أهمية تحديث الخطاب الدينى، والمؤسسات التعليمية، ومواجهة تحديات المجتمع بخطابات أخرى، بالتأكيد سوف تختلف كثيراً عما كان سائداً فى عهد البابا شنودة.
المهمة الثانية: تدعيم مشاركة الأقباط، ولاسيما الشباب، فى الشأن العام. خرج الشباب إلى المجتمع، تفاعلوا مع حركاته الثورية، وعبروا عن مطالبهم، وبينما كان البابا شنودة يشكر المجلس العسكرى ليلة عيد الميلاد، آخر مناسبة كنسية رأس الصلاة فيها البطريرك الراحل، هتف بعض الشباب الثائر «يسقط حكم العسكر». هؤلاء الشباب بحاجة إلى من يستوعبهم، لا يحتويهم، لأن الاحتواء لم يعد ممكناً. الاستيعاب يعنى إنتاج الخطابات الكنسية، الروحية والوطنية، التى تدعم مشاركتهم فى العمل العام، يعبرون عن رأيهم وقناعاتهم، ويتوزعون على التيارات السياسية والفكرية، فهم ليسوا كتلة واحدة، ولا يصح التعامل معهم على أنهم كذلك.
المهة الثالثة: مواصلة النهج الكنسى فى التأكيد على القضايا الأساسية، سواء ما تتعلق بالعلاقات الإسلامية ـ المسيحية، أو التأكيد على المواطنة، أو المشاركة فى العمل الاجتماعى.
المسألة -إذن- ليست بحثاً عن قدرات شخصية، ولكن إيجاد الشخص القادر على تحقيق متطلبات ملحة، برؤية أكثر اتساعاً، وهو ما يتطلب التفكير بشكل مختلف، البحث عن شخص يؤمن بالعمل الجماعى، يدفع فى اتجاه بناء المؤسسات، وإفراز القيادات الجادة، والخروج من أسر أن الكنيسة تلتف حول شخص البطريرك فحسب!