تشكل سوريا والحرب على داعش القاسم المشترك بين كل الأحداث الدموية التى شهدها العالم مؤخراً، بدءًا من تفجيرات لبنان، إلى تفجيرات باريس، ووصولاً إلى إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، بعد أن اتخذت هذه الأخيرة قرارها الحاسم باستهداف الطيران الروسى المخترق للأجواء التركية، متصيدة اللحظة المناسبة لتنفيذ هذه العملية، ولكل هذه الأحداث تأثيرها المباشر على الملف السورى.
سوريا وداعش باتا يشكلان الملف الذى يحرك العالم ويكشف الوجه القبيح عما يدور فى كواليسه من صراعات مصالح وحروب خفية شرسة بين القوى العظمى، سوف تعيد تشكيل الخارطة العالمية لكن بعد أن تضع الحرب أوزارها. وإلى ذلك الوقت فإن ما يمكن استنتاجه من مختلف العمليات التى شهدها العالم سواء بتحطم الطائرة الروسية فى مصر أو ما تلاها من تفجيرات فى لبنان ثم باريس وتونس وكاليفورنيا فهى كلها تثبت فشل التحالف الدولى فى حربه على داعش، خاصة أن هذا التنظيم بعد مرور عام كامل من إعلان الحرب عليه لا يزال موجوداً فى سوريا والعراق وممتداً إلى ليبيا واليمن والنيجر ومالى، وضارباً قلب أوروبا، وواصلاً إلى أمريكا.
ومع تعقيد المشهد السورى وتعارض مصالح القوى الدولية والإقليمية حول شكل الانتقال السياسى ومصير الأسد، بالإضافة إلى غياب قوات محلية يمكن التعامل معها على الأرض، فإن خيوط اللعبة وحساباتها تختلف من دولة إلى دولة ومن مرحلة إلى أخرى. فرغم سياسة واشنطن المتذبذبة فى الشرق الأوسط، فإن الاستراتيجية الأمريكية، بعد العمليات الأخيرة، ستركز على تدمير تنظيم داعش وقواته وعدم توفير الملاذ الآمن له وتجريده من موارده، مع مراعاة تدريب قوات على الأرض، خاصة فى الجنوب السورى، وتجهيزها لمواجهة التنظيم والتضييق عليه واسترجاع الأراضى التى سبق واستولى عليها.
كما ستسعى أمريكا إلى إيجاد حل سياسى لأزمة سوريا، خصوصاً بعدما أبدى بوتين فى أكثر من مناسبة عدم تشبثه ببشار الأسد، وإن كانت موسكو وواشنطن قد اتفقتا على رحيل الأسد وتوفير خروج آمن له، إلا أن توقيت المغادرة لا يزال غير محسوم، وإن كان هناك حديث عن موعد 6 أشهر من بدء المفاوضات بين السوريين وتشكيل هيئة حكم انتقالى تتمتع بكافة الصلاحيات وفقاً لوثيقة جنيف.
تحرك آخر يخص الملف السورى يتجلى فى إقرار البرلمان البريطانى للخيار العسكرى ضد داعش فى سوريا، مما سيسهم فى زيادة نفوذ بريطانيا وحجم تأثيرها فى مجريات التسوية السياسية السورية، وإن كان رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون قد أقر أن هذا الخيار لن يؤدى وحده إلى حل الأزمة السورية، لكنه يبقى القرار الأنسب لدرء التهديد الإرهابى المباشر الذى تواجهه بريطانيا من قبل داعش.
أما ما وقع فيه كاميرون من هفوة أو سوء تقدير استراتيجى، فهو حديثه أمام البرلمان البريطانى عن وجود قوات سورية معتدلة يمكن العمل معها على الأرض لمحاربة داعش كبديل عن إرسال قوات برية. من ناحية أخرى، من المؤكد أن هذه الضربات الجوية البريطانية لن يكون لها تأثير كبير فى تغيير مجريات حرب التحالف ضد داعش، لكن ربما ستشجع باقى الدول داخل التحالف على المساهمة فى هذه الضربات الجوية.
أما فيما يتعلق بروسيا، فبعد عملية إسقاط طائرتها من قبل تركيا، فهى ستعمل، من جهة، على زيادة حجم الدعم السياسى والعسكرى للجماعات الكردية المقاتلة فى شمال سوريا، مع تكثيف الطلعات الجوية على الجماعات المسلحة المدعومة من قبل تركيا فى الشمال السورى، والهدف الأساسى وراء ذلك هو إضعاف تأثير تركيا فى معادلة الشمال السورى. ومن جهة أخرى، ستسعى روسيا إلى الرد على إسقاط طائرتها بطريقة ترضى الشعب الروسى، وهذا ربما ما يفسر دعم وجودها العسكرى فى سوريا بأسلحة أكثر تطوراً.
فى المقابل، يبقى من المستبعد فى الوقت الراهن أى تدخل برى روسى فى سوريا، أولاً، لانخراط روسيا فى المسار السياسى لتسوية الأزمة، مستفيدة فى ذلك من الزخم الذى حققته الحملة العسكرية. وثانياً، كون النجاحات التى يحققها الجيش السورى وحلفائه من ميليشيات إيرانية وعراقية وحزب الله، فى المعارك البرية تحت غطاء روسى لتحقيق السيطرة على المناطق التى تم استرجاعها من داعش، يغنى الروس عن التدخل برياً خصوصاً فى ظل الأوضاع الأمنية والسياسية المعقدة فى المنطقة وتعدد الفاعلين واختلاف منطلقاتهم التى يمكن أن تتغير معها كل الحسابات.
بالنهاية، الملف السورى شائك وتتداخل فيه مجموعة من الأطراف الدولية، ولا شك أن اختلافات العالم هذه وصراعاته وتناقضاته، أيضاً، بخصوص الأزمة السورية هو ما تسبب فى تقوية داعش وتسيدها إلى أن باتت سلاحاً فى يد من لا سلاح له. والعالم الذى لا يزال يستخدم أو يسخّر هذا التنظيم الإرهابى أو من يرغب فعلاً فى التخلص منه عليهم إدراك أن للإرهاب أيضاً حساباته الخاصة وأحلامه، والقضاء على هذا الوحش لن يتم إلا بالقضاء على مسبباتها وأولها الصراع السياسى والطائفى والمذهبى وصراع المصالح فى، وعلى، سوريا.
وكل ما يقوم به العالم اليوم من تحركات، مرة باسم محاربة داعش، ومرة باسم إيجاد تسوية سياسية للملف السورى، فلا يمكن أن تؤتى ثمارها إلا إذا اقتنع العالم بأن الاتفاق حول حل سياسى شامل ونهائى فى سوريا هو أول رصاصة فى قلب تنظيم داعش.