فى صباح يوم 29 نوفمبر الماضى، توجّه السيد وزير التعليم إلى مدرسة الجيزة الثانوية بحى الدقى، لإجراء حوار تليفزيونى مع أحد برامج قناة فضائية على الطبيعة من داخل المدرسة، ويتصور بالطبع أنه كان هناك إخطار مسبق لإدارة المدرسة، خصوصاً أن المشهد به -فضلاً عن وجود الوزير- كاميرات ستقوم بالتصوير والبث الفضائى، ويتوقع حتماً أن تكون إدارة المدرسة قد بذلت العناية المطلوبة للشكل العام حتى يمكن استقبال الوزير وبرنامجه التليفزيونى، ومدرسة الجيزة الثانوية كونها تقع فى حى راقٍ نسبياً فصورتها العامة مقبولة إلى حد كبير، وهو ما ظهر بالفعل عند وصول السيد الوزير، لكن مع بدء الطابور الصباحى للطلاب، كان فى انتظار الوزير صدمة قاسية، تمثّلت فى عدم وجود طلاب صف بكامله، وهو الصف الثالث الثانوى، نعم بالكامل.. وفى يوم زيارة الوزير المعلومة مُسبقاً، كان المشهد يحتاج إلى سؤال ممرور من الوزير عن طلاب ما لا يقل عن 15 فصلاً دراسياً: «أين هم؟»، فأجابته السيدة مديرة المدرسة بأن طلاب هذه الفصول متغيبون بالكامل، وبثقة كاملة وهدوء يناسب الموقف قالت: «الغياب مش عندنا بس سيادتك، ده فى كل المدارس»، والمقصود طلاب الثانوية العامة.
هذا المشهد السابق جاء على خلفية تجميد مجلس الوزراء العمل بقرار الوزير نفسه، الخاص بتخصيص 10 درجات للسلوك والحضور، الذى استتبع مباشرة قرار التجميد، مما أدى لعدم حضور طلاب الثانوية العامة للمدارس المقيدين بها، والاكتفاء فقط بالالتحاق بمنظومة متكاملة للدروس الخصوصية تؤدى الغرض، وعليه تقتصر علاقتهم بالمدرسة على مجرد التسجيل الإدارى والحصول على أرقام الجلوس التى تسمح لهم بخوض اختبار نهاية العام تحت اسم المدرسة التى لم يرتادوها طوال العام، أترك لخيال وتوقع القارئ الكريم أن يكمل هو مشهد السيد الوزير وكيف عبّر هذا المشهد الصادم، وتصورات أحاديث مرافقى الوزير له تعليقاً على الحدث وتجاوزه، حتى يمكن إتمام التسجيل التليفزيونى، لكن قبل الخروج من هذا الحدث أجد من الضرورى العودة إلى قرار تجميد العمل بقرار الـ10 درجات، وأن سبب اللجوء إلى ذلك كان مجموعة تظاهرات طلابية رفضت تنفيذه، وهى فى إجمالها محدودة، لكن اللافت أنه شارك فى بعضها أولياء أمور بعض الطلاب، وفى البعض الآخر أخذ شكل إضراب من الطلاب عن دخول الفصول الدراسية بتحريض وابتكار من بعض أساتذتهم كنوع من ممارسة الضغط، لإلغاء القرار الذى كان سيُجبر جميع الأطراف على الوجود.
هل من الممكن أن يصنع هذا المشهد الممتد بطول مدارس مصر إرهابياً ساذجاً محتملاً، بالتأكيد الإجابة «نعم»، وصميمها المباشر أننا لم نقدّم شيئاً واحداً مقنعاً، ولم نصنع منظومة متماسكة يمكن التعويل عليها، الحد الأدنى من الجدية تسرّب من بين أيدينا وابتعد تماماً عن تصوراتنا، ونحن نشكل عملاً تعليمياً وتربوياً لأبنائنا، وهذه التفاصيل موجودة بشكل أكثر تفسخاً وفداحة إذا انتقلنا خطوات ناحية التعليم الفنى، أو ابتعدنا قليلاً عن حى الدقى، وهى متكررة بالتوصيفات السابقة نفسها إذا استعرضنا ملفات إدارة قصور الثقافة ومراكز الشباب والمسارح المدرسية والحكومية وأى شىء له علاقة بالنشاط الشبابى.
الوزير ومديرة المدرسة والقناة الإعلامية وأولياء الأمور كانوا يقفون جميعاً فى سلة واحدة أمام طلاب الصف الأول والثانى الثانوى، وهم الذين كانوا حاضرين المشهد بكل تفصيلاته، وقد تشكّلت لديهم انطباعات ورؤى كاملة لتوصيفه، تُرى ما التهمة التى وصمونا بها سوى أننا مجموعة من العابثين المحترفين، هل سيمر هذا المشهد من مخيلتهم الغضة؟ لا أظن، فهم لم يمتلكوا بعد مهارة التمرير التى قام بها الوزير ونقوم بها جميعاً، ولا أراهن أيضاً أن هناك خطوة واحدة اتُّخذت فى طريق تجفيف المنابع والمستنقعات المنحرفة التى ستتلقف هؤلاء سريعاً، طالما لم نقف وقفة صريحة للتعامل الصحيح الراشد مع هذه المرحلة العمرية تعاملاً يليق بها، اللائق بها تعليماً وتثقيفاً ونشاطاً وبناء طموح وأحلام متوازنة هو روشتة علاج باهظة الجهد قبل الأموال، لكنها روشتة حتمية قبل أن نقابل هؤلاء مستقبلاً فى أحد كهوف جبل الحلال، وصياغة حلم حقيقى متوازن لهم، يحتاج إلى عقول كبيرة تعيد صياغة المشهد برمته، وتُحدد على أساسه الأدوار التى ستفرضها على الجميع وستُحاسب من يتخاذل، حتى لو كان أولياء أمورهم، منظومة متكاملة من الجدية وتحديد الأهداف بوضوح هى التى يمكن أن تحمى عقول وأجساد هؤلاء من الأحزمة الناسفة المنتظرة على جانب الطريق..
وعن هذا الطريق المفتوح تحديداً نستكمل فى الأسبوع المقبل بإذن الله تعالى.