انتظرت قليلاً حتى تنقشع الآثار الناتجة عن (موقعة البلالين) لكنها لم تنقشع بل ازدادت وانتشرت ووصلت إلى مناطق بعيدة تماماً، أصبحت أخلاقيات المصريين موضوعاً للنقاش على كل الموائد فى داخل مصر وخارجها، لكن الواقعة التى تحولت إلى موقعة ورغم سخافتها وانحطاطها فإنها قد تكون فرصة للتأمل فيما وصلنا إليه فى بلد كانت إلى وقت قريب تتمسك بتقاليد وأعراف ما كان يسمى «العيب».. نعم، «العيب»، تلك الكلمة التى ربما نسيها كثيرون وتناساها كثيرون، فى تقديرى أن الكارثة ليست فى الواقعة ذاتها بقدر ما ظهرت فى التعامل والتعاطى والتفاعل سواء بالرفض أو الموالاة، لقد كانت الواقعة كاشفة وفاضحة للكثيرين الذين كانوا وما زالوا يتشدقون بالمُثل والمبادئ والقيم. لقد رأينا من يدافع لأسباب إنسانية من وجهة نظره ووجدنا من يزايد ويسيّس الموضوع ورأينا من يلتقط الخيط ليبدأ فى عزف ألحان حقوق وحريات التعبير، تلك الشماعة التى أنهكت أمماً ودمرت أوطاناً. لقد وقعت خطيئة من شباب يحتاج إلى تربية وتقويم من الأسرة ومن الدولة، لكن من يقوم ويسأل ويحاسب هؤلاء الذين أشاعوا الفتنة داخل المجتمع وخارجه؟ من يحاسب هؤلاء الهاربين الذين يبثون تغريداتهم الثعبانية؟ من يحاسب أصحاب دكاكين حقوق الإنسان الذين استغلوا كل ما هو حاصل لتحقيق مآربهم؟
يا سادة فى مصر قانون ينادى «من يطبقنى!!» فى مصر اخلاقيات ومبادئ تنتحب من الإهمال واللامبالاة لكن هل انتهى الأمر عند تفعيل القانون على من أخطأ؟
الإجابة السريعة لا، والإجابة المتأنية ألف لا، القضية أن هناك خللاً كبيراً وارتباكاً أخلاقياً وتضارباً وتداخلاً فى المفاهيم، فالخطوة الفاصلة بين الحق والباطل وبين الحرية والقانون وبين التعبير و«التعيير» تلاشت وتداخلت وصارت الأمور «حيص بيص».
المجتمع المصرى فى طريقه إلى منطقة نائية عن جغرافية ثوابته ومقدراته وأخلاقياته وقيمه؟ لن نجد من يعترف بأن أخلاقنا وتربيتنا وقيمنا تآكلت واضمحلت، لكن علينا أن نعترف بشيوع قواعد اللامنطق واللاأخلاق، ربما تحت تأثير قواعد النفاق العام أو النفاق المجتمعى الجمعى وفق قاعدة لا تغضب الشباب ولا تغضب الجماهير ولا تقول كل الحقائق حتى لا تفقد حب وتعاطف الناس.
للأسف الشديد، انتشرت كل الآفات اللاأخلاقية أمام سمع وبصر الجميع.
الصراع على الكراسى وعشق السلطة ودون ذكر أسماء كان عنواناً للمرحلة الحالية.
التلاسن والردح باتا ثقافة مترسخة عند الشباب فكل ما تابعوه أمام شاشات الفضائيات ومن النخب العفنة غير الصورة الذهنية للأدب والأخلاق واحترام الآخر.
كم قضية وُصفت بأنها قضية رأى عام تحول أطرافها إلى غجر مستخدمين كل الأسلحة المحرمة أخلاقياً؟ كم شخصية وصلت إلى كراسى السلطة والمسئولية نتيجة طول اللسان وتخويف الناس بالشتائم وتهديدهم بنشر أسرارهم عبر ثقافة التسريبات؟
الشابان بطلا واقعة البلالين نتاج ثقافة الردح وأدواتهما هى نفس أدوات هؤلاء النكب أو ما يطلق عليهم «النخب».
لا أعفى أحداً من المسئولية الأخلاقية، الجميع أخطأ فى حق المجتمع والجميع الآن يبكى على ما أصاب المجتمع ولا يدرى هؤلاء الباكون أو المتباكون أنهم السبب فيما آلت إليه أحوالنا الأخلاقية والقيمية! لكن ماذا عسانا أن نفعل وماذا نحن فاعلون؟
هذا هو السؤال الذى يجب أن نعكف جميعاً على البحث عن إجابته.
لكن أن نتحول إلى مكلمات فارغة وصارخة وناقدة ومنتقدة ومشاركة فهذا هو الخراب الحقيقى.
يا كل علماء النفس..
يا كل علماء الاجتماع..
يا كل الوطنيين..
يا كل الغيورين..
يا كل الخائفين على مستقبل مصر..
يا كل أبناء مصر المخلصين الأمناء..
متى ندير حواراً جاداً حول التحولات السلبية الحادة فى أخلاقيات المجتمع المصرى؟
كيف ننقذ المجتمع من نفسه ومن سلوكياته الجامحة الطامعة المتسرعة الأنانية؟
لماذا تحولنا إلى مجتمع يغرد على الخاص ولا يهتم بالعام؟
لماذا انحدرت لغة الحوار بين الجميع؟
لماذا صرنا نكره النجاح.. كل نجاح.. ما دام بأيدى الآخر؟
لماذا تحولنا من شعب طيب مسالم مؤدب خلوق إلى شعب آخر فيه من السوءات ما يهدم أى مجتمع آخر؟
أنا خائف على مجتمعى وخائف على بلدى وخائف من مجتمعى على وطنى.. لكن ماذا عساى أن أفعل الآن؟
هى صرخة أُطلقها فلربما تسللت واخترقت آذاناً وطنية فاعلة وقادرة على العمل لا على الكلام.