فى أحد الجوانب الأقل ضجيجاً من المشهد العام، والبعيد إلى حد ما عن صخب التغطيات الإعلامية، كانت مصر على موعد مع حدث سعيد، إنجاز راقٍ بطعم التفوق استطاعت مجموعة من العقول المصرية إحرازه على المستوى الدولى، حيث احتل «المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية» بالقاهرة العديد من المراتب المتقدمة من بين مراكز الفكر العالمية والعربية والإقليمية فى التقرير السنوى لجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو المعنىّ بتقييم وتصنيف مراكز البحوث والدراسات على مستوى العالم وفق مجموعة من المعايير الأكاديمية الصارمة والدقيقة، وهو ما أكسب هذا التقييم مرتبة التقييم الأبرز والأول على المستوى الدولى فى هذا المضمار التقييمى للعمل البحثى ولمراكز الفكر. صدر هذا التقييم الأربعاء الماضى عن العام 2015م حاملاً مجموعة من التقديرات التى حصدت بالفعل لمصر مجموعة من النجاحات التى أثارت الفخر وبعضاً من الشجون.
المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية حقق فى التقييم الكلى المركز 13 على مستوى العالم من ضمن نحو 6846 مركزاً تعمل بنفس التخصص وشملها هذا التقييم، نتائج تثير فى النفس شعوراً بالفخر، خاصة وهى تتحدث بلغة التحكيم الأكاديمى البحت الذى يستغرق فى متابعة لصيقة طوال عام كامل لكل منتجات وعناصر العمل داخل مراكز البحث والتفكير، وعندما يتعلق الأمر بساحة العقول والجهد الإبداعى الرصين يزداد الأمر رقياً ويكتسب المزيد من التقدير، حيث تلعب مراكز الفكر دوراً مهماً فى عملية صنع السياسات العامة والخارجية للدول من خلال صياغة تقييم موضوعى دقيق للملفات المطروحة، مع الحرص على تقديم مجموعة من البدائل والمسارات المتعددة من خلال ما تطرحه من أفكار ودراسات. هذا عن الصورة العامة للدور الأكثر أهمية فى الدول المتقدمة بدقة توصيف المكانة، لكن المثير للشجون مع مساحة النجاحات المتحققة أنه ما زال الحديث عن مراكز الفكر فى مصر يركز على محدودية تأثيرها فى صنع السياسات، فهناك تغييب حقيقى وملموس لتعزيز عمل مراكز الفكر وتمكينها من القيام بدورها المأمول من خلال دفعها للاشتباك مع الملفات المطروحة والضاغطة على المشهد العام فى مصر.
قد يشكل هذا الغياب فى التأثير الفعال فداحة مضاعفة، إذا كان التقدير الدقيق للموقف يضع ما تواجهه مصر من تحديات فى ظل الوضع الراهن للإقليم فى خانة الخطر المتحقق، وإضافة مجموعة عوامل مثل التعقيدات على صعيد مكافحة الإرهاب والصراعات الداخلية والضغوط الاقتصادية التى تتعرض لها دول المنطقة ونحن معها. هذا يدفع باتجاه ضرورة تنشيط وتفعيل الاستفادة من تلك المصانع الفكرية اللازمة لصناعة خطط وأفكار جديدة ومبتكرة، فهذه الأخيرة، حتى فى مجالات مثل التجارة والصناعة والترويج، قد يُدفع مقابلها مبالغ طائلة، فالفكرة الذهبية والمسار الجديد الذى يتم شقه هو السلعة الأغلى ثمناً بالفعل، خاصة عندما تكون تحت ضغط وضع معقد. والأخير فى هذا الصدد أن من مستلزمات العمل البحثى وصناعة التفكير أنه يقف على كافة النماذج المشابهة عالمياً، ويعمل على استخلاص النتائج والرؤى الأكثر جدارة بالتعاطى معها الكفيلة والمجرَّبة فى تحقيق نجاحات ملموسة.
الدول الجادة التى تطرق كافة الأبواب والتى تشحذ كل أسلحتها المشروعة لمواجهة الأخطار والضغوط، تتعامل مع الحديث السابق على قدره من الأهمية البالغة، فالتفكير والإيمان به وتنفيذ منتجاته الرصينة هو الفريضة التى لا يصح من دونها العمل أياً كان اتجاهه.