كلما جاء «عيد الحب»، وكلما تحدث أحد أمامى عن الحب وأحواله وأشكاله، تذكرت على الفور الأستاذ «على حجازى» ابن قريتى وصديق طفولتى ومطلع شبابى، الذى لم يشترك معنا أبداً فى أى حديث عن الحب أو المشاعر الخاصة أو العامة، وكان دائماً يتعامل مع أى مشاعر من هذا النوع باعتبارها تفاهة لا تليق إلا بالعيال والشباب الفاسدين معدومى التربية، وكان بعضنا يعتبره فلاحاً جلفاً لا يصلح إلا للتعامل مع المواشى.
ومع ذلك لم تكن علاقة معظمنا بـ«على حجازى» تنطوى على أى نوع من الكراهية أو العداء، أنا شخصياً كنت أحبه وأحترمه وأشعر براحة كبيرة فى حضوره، لأنه كان يقضى معظم وقته عاملاً فى حظائر عائلته الكبيرة، يرعى المواشى ويسقيها ويحمّمها ويعالجها ويقوم بنفسه بجس الإناث للاطمئنان على حملها، وغالباً ما كان يسهر الليالى حتى الفجر إلى جوار بقرة أو جاموسة على وشك الولادة، حتى تضع حملها بين يديه، وكنا - نحن الساهرين على مصاطب البيوت فى ليالى الصيف والشتاء - نصادفه كثيراً وهو فى الطريق إلى اللحاق بصلاة الفجر فى المسجد، ثم وهو عائد من الصلاة يدندن بأغنية أو موال شعبى، وما إن يرانا حتى ينضم إلينا لبعض الوقت ليشاركنا ما نحن فيه، ولا أتذكر أبداً أنه وجّه نقداً إلى أحد فينا، لأننا لم نلحق بصلاة الفجر مثله، أو نقضى ليالينا فى أحاديث فارغة عن كرة القدم أو الممثلات الجميلات أو عن خلافات سياسية مرهقة حول اشتراكية عبدالناصر ورأسمالية السادات ومبارك.
كان «على حجازى»، إلى جانب عمله فى حظائر عائلته، تلميذاً مثلنا فى المدارس، ثم طالباً مثلنا فى إحدى الكليات، وكنا دائماً نراه منكباً على المذاكرة تحت ضوء مصباح كهربائى يتدلى من سقف الحظيرة، فوق مصطبة أسمنتية إلى جوار حوض المياه الذى تشرب منه البهائم.. وقد ظللت لسنوات طويلة أتعجب من قدرته على الجمع بين العمل الشاق والدراسة دون شكوى أو تذمر، ودون مباهاة أو ادعاء بطولة، وأتعجب أكثر من اختياره لهذه الحياة وتحمله لمسئولية ضخمة دون أن يكلفه أحد من أسرته أو عائلته بذلك، فحظائر عائلته يعمل بها عدد كافٍ من «الكلّافين» الذين يتقاضون أجراً يومياً أو شهرياً، ووالده وأعمامه يباشرون تجارة المواشى وتربيتها مثل أى صاحب عمل، ولا يحتاجون إطلاقاً إلى هذا الجهد الشاق الذى تطوع به «على حجازى» منذ طفولته إلى أن تخرج فى الجامعة، وذات مرة كنت مريضاً وجاء على حجازى زائراً ومطمئناً على صحتى، وسهر معى حتى منتصف الليل، ويومها سألته: «انت ليه هالك نفسك فى الزريبة يا على؟. فأجابنى: بص يا أستاذ.. أنا هقول لك الحقيقة.. وعارف إن لسانك الوسخ مش هيرحمنى.. وانك هتستلمنى انت والعيال الصيع بتوعك وهتفضلوا تتريقوا علىّ.. أنا بحب البهايم جداً.. البهايم أنضف من البنى آدمين.. وبيطمر فيها الحب أكتر من البنى آدمين.. البهايم يا أستاذ عندها مشاعر.. بتحب وبتفرح وبتغضب وبتتألم.. يا سلام لو تيجى مرة تشوف حزن بقرة أو جاموسة على عجلها اللى مات.. مش انت شاعر.. تعال وشوف الحزن اللى فى عنين البهيمة لما ابنها بيموت وانت هتكتب اللى أنا مش قادر أوصفه».
ويومها أيضاً سألته: جربت تحب بنت أو تتحب من بنت؟. فاحمرّ وجهه خجلاً وارتفع صوته بالضحك ليدارى خجله قبل أن يجيب: «انتو شوية عيال صِيَّع.. فاكرين إن الحب بيتولد ويعيش مع العواطلية من أمثالكم». وفجأة غامت نظرته وهو يتطلع إلى ظلال ضوء القمر من شباك حجرتى المفتوح، ثم نهض واقفاً استعداداً للمغادرة وهو يقول: «لما ربنا يشفيك هابقى أقول لك اللى عمرك ما هتعرفه عن الحب من الكتب والسهرات بتاعتك».
بعد ذلك بسنوات زاد تقديرى لـ«على حجازى» وأنا أقرأ مندهشاً ومستمتعاً عدداً من الكتب التى تناولت دراسة المشاعر والأحاسيس عند الحيوانات.. وكان فى مقدمتها كتاب «عندما تبكى الأفيال» الذى نشرته سلسلة الألف كتاب قبل نحو 20 عاماً، وقد فاجأتنى القراءة فى هذا المجال بحقائق مذهلة ما زلت أستعيدها وأتابعها فى اندهاش بكر، وكأننى أعرفها لأول مرة، فالحيوانات تعرف الحب والألم والفرح والحزن الرهيب وتبكى بحرقة وتجأر بالصراخ على فقد الحبيب، والحيوانات تتصارع حول العشب ومناطق النفوذ، ولكن الشرف الحيوانى لا يدفع فيلاً إلى قتل فيل، ولا أسداً إلى التهام أسد، ولا ذئباً إلى التهام ذئب مثله، كما أن الحيوان لا يؤذى حيواناً آخر إلا إذا كان خائفاً أو جائعاً. الإنسان إذن هو الكائن الحى الوحيد الذى يخدع ويؤذى ويقتل ويشرب دماء بنى جنسه، والإنسان أيضاً هو الكائن الوحيد الذى يتغول فى الأذى والقتل وسفك الدماء كلما زاد أمنه وشبعه!.
نوع آخر من الكتب علّمنى أن الأكثر جدية فى الحياة والأكثر تحملاً للمسئولية هم الأجدر بالحب وبالعشق.. وأن المناضلين ضد التوحش والاستعباد وإهدار الكرامة والفقر والظلم الاجتماعى هم الأكثر إلهاماً للحب المبدع، الحب الذى يعيد إنتاج طاقة الأمل والتسامح والرحمة فى عالم يموج بالحقد والكراهية والإحباط والجلافة.. وكلما تقدم بى العمر، زاد إدراكى بأن «على حجازى» الذى قضى معظم عمره منتجاً - وهو ليس فى حاجة إلى العمل - أروع وأجمل وأصدق فى الحب من كل هؤلاء المنمقين الذين ملأوا حياتنا بالنحنحة والسهوكة والميوعة حتى وهم يتحدثون تحت مظلة الدين مثل شيوخ الفضائيات المخنّثين.. ومطربى التأوهات الذين أنتجوا نوعاً مقززاً من «مشاعر الحب» يليق تماماً بمجتمعات تعانى من تدهور أخلاقى وقيمى وإنتاجى على كل الأصعدة.