■ خرجت من عيادتى فى الحى الشعبى بالإسكندرية ووقفت عند بائع الفاكهة.. وجدت طفلا ًيسأله عن ثمن الثمرة الواحدة.. فأجابه البائع: نصف جنيه.
■ انزوى الطفل وهو ينظر بشوق إلى الفاكهة.. أمرت البائع أن يعطيه ما يريد.. وأعطيته مبلغا إضافيا ليعطى أى طفل فقير ما يريده من الفاكهة.
■ فقال: إنى أفعل ذلك مع الفقراء.
■ شكرته وأنا أستعيد شريط ذكرياتى.. فقد مررت بمثل هذا الموقف وأنا فى المعتقل.. وذلك عندما أغلقت علينا الزنازين ومنعت عنا الزيارات.. فكان طعام السجن «السوس بالفول».. و«الدود بالأرز».. لم أعرف معنى سوس الفول إلا فى السجن.. ولم أتصور أن يكون الأرز المطبوخ فيه دود إلا وقتها.
■ كان ذلك فى صيف 1987م بعد أن هرب ثلاثة من الإخوة دون علم أو رضا الباقين.. ولكن الجميع عوقب أشد العقاب والنكال.. فالسجون لا تعرف مبدأ «شخصية العقوبة» ولا قول الله تعالى «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى».
■ ساعتها فى شدة الحر كان الجندى نقراشى حارس العنبر يتجول فى العنبر الصغير وهو يأكل قطعة رائعة من البطيخ الأحمر.. كنا ننظر إليه جميعا.
■ ياه.. هذه أول مرة فى حياتى أتمنى أن يدعونى أحد لشىء من طعامه.. تمنيت أن يعطينى نقراشى قطعة من البطيخ.
■ قلت لنفسى: ما هذا يا شيخ ناجح.. هذه أول مرة تحدثك نفسك بهذا الأمر المشين.
■ لم يقم نقراشى بدعوتى ولا بدعوة غيرى.. ساعتها فكرت طويلا فى مشاعر الفقير والمحروم والمسكين.. ويومها قلت لنفسى: لا بد أن هذه المشاعر التى اعتملت فى نفسى تحركت عند بعض إخوانى.
■ كلمت المرحوم/ أحمد حسن وهو من أفاضل الإخوة الذين كانوا معنا وأصابه ورم فى المخ مات على أثره قبل خروجه من السجن بأسبوع.
■ قلت له: لدينا خمسون جنيها فى المخبأ.. أخرجها واشتر للإخوة بطيخا وجبنا مع هؤلاء الجنود.
■ من يومها احترمت رغبة الطفل الصغير أو الفقير حينما ينظر إلى طعام يحبه.. واحترمت نظرة الفقير والمسكين واليتيم.
■ آليت على نفسى أن أجعل الرحمة بالفقير والمحروم عنوانا لحياتى.. والشفقة على الآخرين هى أفضل ما أقدمه لمجتمعى.. وإسعاد الآخرين وتفريج الكربات أساسا لحياتى.
■ ألاعب الأطفال وأجالسهم وأقول فى نفسى: هؤلاء أفضل من بعض الساسة الذين يتلونون كل ساعة.. يحبون أن ألاعبهم «عفرتون وزغزغون».. هى ألعاب اخترعتها لهم.. حتى الأطفال المرضى يقولون لأمهاتهم: نريد أن نذهب إلى الدكتور اللى عنده ملبس ويزغزغنا.. أقارن بين براءة الأطفال ومكر بعض الساسة فينقبض قلبى.
■ كل تجارب السجن جعلتنى أقرأ وجه المريض الفقير ومأساة اليتيم والأرملة والمسكين دون أن ينطق بكلمة.. فقد قرأت آلاف الوجوه منها فى المعتقل.. ولكن مأساتى أننى لا أقدر على تلبية كل ما يحتاجون.
■ لا يسعدنى شىء فى الدنيا مثل دعوة مريض حطمته السنون والأمراض والحاجة.. وما أكثر هؤلاء.. وما أبعد أصحاب الصراع السياسى عن الاهتمام بهم أو رعايتهم.
■ آه.. ما أكثر ما ينفق فى الانتخابات.. مليارات وراء مليارات.. فى الوقت الذى أجد فيه بعض المرضى لا يجدون أقل ضرورات الحياة وقد دهسته كل أدواء الدنيا.. فأقول ما أقسى قلوب الساسة وما أبعدهم عن قول الحق والرحمة بالخلق.. وما أقربهم إلى الكذب والتلون.