كيف يمكنك أن تتعامل مع «ظاهرة» شخص مثل توفيق عكاشة أو مرتضى منصور، وأن تضع كلاً منهما فى مكانه الصحيح دون تهويل أو تهوين؟.
الحقيقة أننى لم أتعامل أبداً مع شخص توفيق عكاشة منذ أن عرفته لأول مرة عام 2005، بوصفه «عبيط الإعلام» كما يُراد لنا أن نتعامل معه، وانتبهت منذ سنوات
- وتحديداً بعد ثورة 25 يناير 2011
- إلى أن هناك جهات أرادت لنا أن نتعامل مع شخص مثل مرتضى منصور بوصفه مجرد «بلطجى» سليط اللسان قادر دائماً على تحطيم خصومه، ولديه اضطراب ما يدفعه دائماً إلى قول كل ما يعرفه عن أى شخص وعن أى جهة على الملأ، دون ضابط أو رابط.
قد يكون هناك بعض الاضطراب فى أداء هذا أو ذاك، ولكن المؤكد أن هذين الشخصين، ما كان لهما أن يستمرا يوماً واحداً فى صدارة المشهد العام، وأن يحصل كل منهما على أعلى الأصوات فى الانتخابات البرلمانية، دون أن يكون هناك جهاز أو حتى أجهزة، رأت فى وجودهما نوعاً من «المصلحة» السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وليس مهماً أبداً أن تكون هذه المصلحة إيجابية للوطن وللمواطنين، ولكنها- وهذا هو الأقرب للصحة- دائماً ما تكون مجرد وسيلة لإلهاء الشعب عن قضاياه المهمة، وشغله وتسليته بـ«لعبة» مثيرة أو بذيئة.
واللافت فى هذا النوع من «المساخر» التى تستخدمها الأجهزة فى إلهاء الرأى العام، أنها كثيراً ما تخرج عن السياق المحدد لها، إما بسبب انقسام الأجهزة على نفسها فى توجيه «المسخرة»، أو بسبب مبالغة «المسخرة» فى تقدير ذاته، مثلما حدث مع توفيق عكاشة الذى خرج عن النص المرسوم له تماماً، وتصوّر أنه يصلح رئيساً للبرلمان، وعندما شن حملة ضارية على وزير الداخلية، ثم عندما عرّض سلامة الدولة للخطر باقتراحه المثير عن ضرورة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
هنا كان لا بد من وقفة مع توفيق عكاشة: «اتركه وسوف يقضى على نفسه بنفسه.. دون أن تتحمل الدولة أو النظام أدنى مسئولية عن نهايته المفجعة».
وها هو «عكاشة» الذى انكشف عنه غطاء التوجيه يندفع إلى «الهاوية».. وقد اختار له اضطرابه «هاوية» لا يختلف عليها الرأى العام فى هذا البلد، هى هاوية التطبيع مع إسرائيل، واستضافته للسفير الإسرائيلى فى منزله بقرية «ميت الكرما» بمحافظة الدقهلية، ثم باستعداده لأن يذهب رأساً إلى إسرائيل ليخطب فى «الكنيست»!.
وقد قامت الدنيا فعلاً: دنيا الفيس بوك وتويتر.. ودنيا الصحف والفضائيات، ودنيا البرلمان الذى تجلّى فيه واحد من أكثر ردود الأفعال إهانة عندما خلع النائب المخضرم كمال أحمد حذاءه وتوجه إلى توفيق عكاشة ليضربه به على رأسه!.
هل أعجبك ما فعله كمال أحمد مع توفيق عكاشة؟.. الحقيقة أننى تقززت مما فعله الأستاذ كمال، ليس لأننى متعاطف مع عكاشة، وليس لأننى - لا قدر الله - من المتساهلين فى قضية التطبيع مع إسرائيل، ولكن لأنى بطبعى أحتقر الاستئساد على «فرخة»، وأحتقر «الاستعراض النضالى» أكثر من احتقارى لاستعراضات هز الأرداف فى الكباريهات، وأنفر بطبعى من «المساخر» التى تنقلب فجأة إلى جَدٍ مفتعل تتساوى فيه تفاهة المسخرة واضطرابها، مع النضال الاستعراضى الذى يسعى صاحبه إلى تسجيل موقف مشرف فى مناخ ملوّث!.
وحتى لا يزايد عليّ أحد، أذكركم فقط بأننى - فى حدود علمى - كنت أول شخص كتب عن توفيق عكاشة، فى وقت لم يكن فيه نجماً ولم يكن معروفاً على هذا النطاق الشعبى والعربى، كان ذلك عام 2005 عندما استبعده أحمد عز من قائمة مرشحى الحزب الوطنى فى محافظة الدقهلية، فسارع توفيق عكاشة إلى نشر إعلان فى الصحف على نفقته الخاصة تحت عنوان «استغاثة بالرئيس مبارك»، قال فيه للرئيس آنذاك أنا توفيق عكاشة يا سيادة الرئيس، توفيق الذى استقبلك أثناء زيارتك للمنصورة بزفة بلدى رقصت فيها الخيول.. ابن قرية «ميت الكرما» التى تبرعت للحزب والتى استضافت فلان وفلان من قيادات الحزب.. كيف تستبعدوننى من قوائم الحزب يا سيادة الرئيس.. أرجوك تدخل وأنصفنى من هذا الظلم».
آنذاك يا سادة، لفت نظرى فقط فى الإعلان أن توفيق عكاشة من قرية «ميت الكرما» التى دخلت التاريخ مرتين من أشرف وأنبل أبوابه.. ثم دخلته مرة ثالثة من أكثر أبوابه خزياً ووجعاً، فقرية «ميت الكرما» هى ذاتها قرية «ميت الغرقا» التى استضافت عبدالله النديم خطيب الثورة العرابية بعد الاحتلال الإنجليزى لمصر، وخبأته 8 سنوات ووفرت له الحياة الكريمة والكتب والزيارات من خلف ظهر السلطة التى رصدت آنذاك 5 آلاف جنيه مكافأة لمن يرشد عنه، كانت تكفى لشراء ألف فدان فى هذا الزمان، و«ميت الغُرقا» هى القرية التى استضافت أكبر عدد من أسر المهجّرين من مدن القناة أثناء حربى 1956 و1967، واقتسم أهلها البيوت والحقول وحظائر المواشى وأثاث البيوت مع المهاجرين.. وهو ما دفع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى إصدار قرار جمهورى بتغيير اسمها إلى «ميت الكرما».. ثم عادت هذه القرية مرة أخرى إلى التاريخ عام 1988 عندما صحونا على كارثة سفر 600 شاب من أبنائها إلى إسرائيل للعمل فى المزارع وبناء المستوطنات.. ثم تصاعدت أعداد المسافرين إلى إسرائيل لتشمل 5 قرى أخرى مجاورة لـ«ميت الكرما» التى تحولت بيوتها الفقيرة إلى قصور وفيلات من العمل فى إسرائيل.
آنذاك يا سادة، لم يرفع نائب فى البرلمان أو مناضل هنا أو هناك، حذاءه ليضرب به أحداً.. وها نحن دائماً عندما يكون النضال مطلوباً لا نخلع إلا مروءتنا وشرفنا السياسى.. والإنسانى.. وعندما يكون المشهد هزلياً وباعثاً على القرف نستدعى على الفور مقولة صلاح عبدالله فى فيلم «كباريه» لشقيقه الخارج عن السيطرة: «انت وسّخت لى الكباريه»!.