مليار ونصف المليار يورو من الاستثمارات الفرنسية تدخل مصر، لو كان التصريح من أحد المسئولين المصريين لكذّبه كثيرون وأطلقوا سخريتهم، لكن من يقول ذلك ويؤكده هو الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند فى زيارته التى اختتمت أمس.
من فضلك، ارجع (فلاش باك) لما بعد الثلاثين من يونيو، تذكّر موقف فرنسا مما حدث فى مصر، اذهب فوراً إلى مباحثات ثنائية بين عميد الدبلوماسية العربية الراحل سعود الفيصل، وبين فرنسا، استخدم فيها دبلوماسية خشنة للحد من أى ردود فعل ضد مصر، ونجح.
ثم اذهب (فلاش باك) آخر إلى استقبال رسمى وحفاوة فرنسية بزيارة «السيسى» إلى فرنسا، ثم (معلهش هاتعبك) خذ لك (فلاش باك) ثالثة، لترى «أولاند» ضمن من حضروا افتتاح قناة السويس الجديدة، لترى تطوراً مهماً يُحسب للسياسة الخارجية المصرية مع بلد هو السادس فى حجم استثماراته بمصر.
يقولون إن الزيارة الناجحة هى التى تتمخّض عنها نتائج تصل إلى الناس، وأعتقد أن اتفاقات (إعلان النوايا) التى تم إبرامها بين مصر وفرنسا كانت من التوفيق لتؤكد نجاح الزيارة، لكن الشىء (الجيّد) فى (التعامل) المصرى مع الاتفاقيات المتعلقة بالمناحى المختلفة، هو نهج صنعه «السيسى» نفسه فى توجيهاته لوزرائه أو حتى تفاوضه المباشر مع رؤساء الدول، وهو ألا تقتصر الاتفاقية على تعاون (بالأجهزة) أو (الأنظمة) أو (المشروعات)، بل يصاحبها (تأهيل) و(تدريب) تقوم به الدولة الأخرى، وهو ما أشار إليه «أولاند» نفسه فى ما يتعلق بتعاون البلدين فى مجالات تدريب الشباب على المشاريع الصغيرة، وقطاعات التأمين الصحى، واتفاقات النقل والمواصلات التى هى فى سبيلها لإحداث طفرة تحتاج إليها مصر، سواء فى المرحلة الجديدة لمترو الأنفاق، أو فى عودة للترام الشهير الذى يربط ضواحى القاهرة، الذى كنا نعرفه بمترو مصر الجديدة.
كل ذلك جميل ومبهج، لكن ما يجب أن نركز عليه فعلاً هو ما قاله الرئيس السيسى فى ملف حقوق الإنسان، الذى أصبح شوكة فى حلق النظام المصرى فى الكثير من المحافل الدولية، ومثار مواجهات قوية وأسئلة دائمة.
حسناً، هذه هى المرة الأولى التى يواجه فيها الرئيس السيسى المجتمع الدولى مواجهة صريحة بردود قاطعة على منوال أن مصر -بل والعرب- تختلف عن (أوروبا) فى القيم المتعلقة بحقوق الإنسان، وأن أوروبا تسبق مصر بكثير، وأن المنطقة أمامها الكثير لتصل إلى المرحلة نفسها، التى يطالب بها المجتمع الأوروبى فى مجال حقوق الإنسان..
نقول إنه رد قاطع، لكننا لا نعرف هل سيفهمه الغرب، أو يحاول (تفهمه)، أم سيُساء تفسيره وتأويله، لا سيما، وقد فهمه كثيرون فى مصر نفسها، وعلى السوشيال ميديا تحديداً، على أنه تملّص من التزاماتها الواجبة فى ملف حقوق الإنسان.
هذا الرد القاطع يمثل سياسة مصرية ترى أن (ظروف) مصر الاستثنائية قد تسمح -والكلام فى أذهان المسئولين المصريين- ببعض الانتهاكات غير المقصودة (هكذا يصفونها بالمناسبة)، أو بالتشديد فى إجراءات قد تمس حقوق الإنسان بالمعايير الدولية، لكنها تحمى مصر، وتناسب خصوصية موقفها، كما يراها «السيسى» نفسه، وهو ما يجعلنا نتساءل: إذا سلمنا جدلاً بأن كل ذلك طبيعياً، فمتى ينتهى الوضع الاستثنائى والظروف الصعبة، وماذا لو لم تنتهِ المؤامرات على مصر، خصوصاً أن مصر مغرية للمؤامرات بحكم سلطتها التاريخية والجغرافية وثقلها السياسى فى المنطقة..
فى اعتقادى هذه أسئلة يجب على ذوى الأمر التفكير فى حلها، لأن تسويفها سيجعلها مؤجلة الانفجار، لكن لن يمنعها أبداً من الانفجار، ولو بعد حين، فى وجوهنا جميعاً..