كيف وصلت الأزمة بين الصحفيين ووزارة الداخلية إلى طريق مسدود؟. ومن هم الذين أداروا هذه الأزمة فى هذا الظرف العصيب وأشعلوا مزيداً من الحرائق راحت تنتقل بسرعة مريبة من حيزها المحدود بين طرفين متصارعين، لتصل إلى معركة ملتبسة تديرها كتائب إلكترونية جاهلة تخطط لتلويث سمعة كل الصحفيين وكل الإعلاميين وإهدار كرامتهم واتهامهم جميعاً بالخيانة والعمالة؟ وكيف تقبل أى مؤسسة مسئولة فى هذا البلد هذه الحملة المنظمة على مواقع التواصل الاجتماعى ضد أعرق مؤسسة للرأى فى الشرق الأوسط كله، وهل فكر مسئول واحد عاقل فى النتائج الكارثية لتحريض قطعان إلكترونية سائبة ضد كل من يعترض أو ينتقد الأداء المتدنى والجهول لأجهزة الأمن؟
إن الأسئلة التى تثيرها هذه الأزمة لا حصر لها، ومن يتابع الترتيبات المنظَمة وردود الفعل المأجورة التى راحت تسب الصحفيين جميعاً، وتنعتهم جميعاً بأوسخ الشتائم والصفات، لا بد أن يصيبه الرعب من حجم التدليس والكذب وخلط الأوراق، ومن جبال مشاعر الكراهية التى تتراكم يوماً بعد يوم فى صدور فئة جديدة ضد جهاز أمنى يبدو أن بداخله من له مصلحة غامضة فى إشاعة الكراهية ضده، بل فى تصوير هذا الجهاز الأمنى كله وكأنه يعمل ضد الدولة ويتآمر لتوسيع دائرة العداء وتعميق الكراهية وتأجيج الاحتجاجات ضد رأس الدولة، فى وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى سلامة الجبهة الداخلية، وامتصاص طاقة الغضب من صدور الناس، حتى نفلت جميعاً من مؤامرة كونية شديدة الوضوح، عصفت بدول الجوار، وحوّلتها إلى أنقاض وإلى جيوش متحاربة وإلى شعوب نازحة ومُهانة.. ولم يبق فى المنطقة بكاملها غير دولة واحدة - هى مصر - ينبغى أن نحمى جبهتها الداخلية من الصراعات والاحتجاجات ومشاعر الاحتقان السياسى الداخلى، حتى تستجمع كل قواها فى مواجهة التآمر الخارجى.
من الذى أوحى لهذا الجهاز الأمنى البغيض أن استئجار كتائب إلكترونية، واستئجار بلطجية يشتمون كل من يجرؤ على النقد أو الاعتراض بأحط الشتائم.. هو عمل يمكن أن يؤدى إلى إسكات المعترضين. لقد لجأ هذا الجهاز البغيض والجهول إلى تسريب مكالمات فاضحة لإعلاميين ونشطاء، لاغتيالهم معنوياً، فأدت فوراً إلى عكس المطلوب منها، وبدلاً من أن يتعلم هذا الجهاز المتدنى الكفاءة أى شىء من استخدام هذه القاذورات فى إدارة صراع سياسى، إذا به يندفع إلى جهالات أعمق وأخطر، فيستخدم قطعاناً معدومة الضمير فى الشتم والسب والضرب، وإذا به يرتكب جريمة إهدار كرامة كل العاملين فى مهنة الصحافة دون تمييز، ويحرض فئات من الشعب ضد مهنة كانت وستظل هى سلاح الشعب الباقى لحمايته من الفساد والظلم والقمع.
سيقول قائل: وهل يعجبك ما فعله الصحفى المتدرب محمود السقا وما قاله على صفحته ضد الشرطة والجيش والرئيس؟ وما رأيك فى إيواء مجرم هارب من العدالة داخل نقابة الصحفيين؟ والإجابة ببساطة شديدة أن إيواء «محمود السقا» -إذا صح ما هو منسوب إليه- داخل النقابة هو عمل أخرق لا يقل جهلاً ولا رعونة عن تصرفات الجهاز الأمنى الجهول.. فما كتبه السقا على صفحته - إن صحت الواقعة - يمثل جريمة سياسية وجنائية مكتملة الأركان، ولو أن هناك فى مجلس نقابة الصحفيين رجلاً واحداً عاقلاً أو حكيماً يملك جسارة التصرف الحكيم دون خوف من مزايدات رخيصة، لقام بطرده على الفور من مبنى النقابة.. إذ كيف يقبل إنسان يعمل بمهنة الصحافة أو الرأى، ولديه حد أدنى من الإحساس بالمسئولية، أن يوافق على إشاعة شريعة الغاب فى مجتمعنا، وأن «يتبنى» حماية شاب يدعو إلى قتل ضباط الشرطة والجيش والقضاة واغتيال رئيس الجمهورية فى حالة الاختلاف معهم؟!
إن من حق النقابة أن تحمى أعضاءها من الملاحقة الأمنية فى قضايا الرأى.. ومن حق النقابة - بل من واجبها - أن توفر لأعضائها تحقيقات عادلة ومحاكمات عادلة، وأن تقيم الدنيا ولا تقعدها ضد من تسول له سلطته أن يقيد حرية الرأى المنضبط والمسئول.. أما أن تتوسع هذه الحماية لتشمل من يدعو إلى الاغتيال، فتلك فضيحة لا ينبغى أن تمر دون مساءلة، وينبغى أن تمتد المساءلة لتشمل هؤلاء الأدعياء السفلة الذين علّقوا على حوائط النقابة صوراً لقتلة مأجورين، من بينها صورة «أحمد سبيع» الصحفى الإخوانى الذى شارك فى قتل الزميل الشهيد الحسينى أبوضيف.
إن رجلاً واحداً عاقلاً فى وزارة الداخلية، كان بإمكانه أن يرحمنا جميعاً من هذه الحروب الفئوية بين الشرطة والأطباء، ثم بين الشرطة والمحامين، ثم بين الشرطة والصحفيين، رجل عاقل واحد كان بإمكانه أن يضع مجلس نقابة الصحفيين فى حرج بالغ لو أصر على اصطحاب عضو نيابة عامة أثناء دخول الشرطة إلى النقابة، وأخطر النقيب وأعضاء المجلس بحجم الجريمة التى ارتكبها شخص يحتمى بمبنى النقابة من ملاحقة قانونية واجبة.
كما أن شخصاً واحداً عاقلاً فى مجلس النقابة كان بإمكانه أن يفوّت الفرصة على قطاع فى الداخلية استمرأ إثارة الأزمات وإشعال الحرائق وانتهاك الحريات، لو بادر من تلقاء نفسه إلى إخطار هذا الشاب بأن مبنى النقابة ليس مكاناً يحتمى به من يدعو إلى القتل وسفك الدماء وإشاعة الخراب فى بلد يمر بظروف عصيبة ويخوض حروباً ضارية على عدة جبهات.
ولكن الذى حدث، أننا تركنا أمورنا شديدة الأهمية لعقليات تتصرف بمعزل عن الظرف السياسى العام الذى يتهدد وجودنا نفسه، وتصرف انتباه الرأى العام عن أخطر وأدق مرحلة تمر بها الدولة، تشعل حرائق وأزمات نحن فى غنى عنها، والأخطر أن هذه العقليات الصغيرة تسرع دائماً إلى استقطاب مؤيدين ومشجعين وشتامين معدومى الضمير، سيتحولون حتماً إلى قطعان مأجورة تذهب مع من يدفع أكثر.. مثل عاهرة تبيع لحمها، ومعها لحم الوطن كله، فى أسواق النخاسة السياسية!.