الطفل الذى عاش بعد سبعة إخوة ماتوا كلهم قبله، فقد بصره فى عامه الأول، بعدما عالجوا عينيه بخليط من روث البقر وعسل النحل.
أتم الشيخ إمام عيسى حفظ القرآن فى الجمعية الشرعية التى أقام فيها 4 سنوات، ثم طرد منها لأنه ضبط وهو يستمع إلى تلاوة الشيخ محمد رفعت بالراديو، الذى حرموا الاستماع إليه باعتباره بدعة! فاضطر الشيخ الصغير إلى الإقامة بمسجد الحسين نهارا والمبيت بالأزهر ليلا، وعندما علم أبوه -وكان عضوا فى فرق إنشاد صوفى- بأمر طرده حضر وضربه بشدة ثم حذره من أن يرى وجهه أو أن تطأ قدمه القرية ثانية، ويبدو أن الرجل الذى اعتاد وفاة أطفاله قال بيدى لا بيد القدر! ثم بلغ «إمام» نبأ وفاة أمه بعد هذه الواقعة بعشرة أيام، ولم يشيعها لقبرها، كان فى الحادية عشرة، ولم تطأ قدمه بلدته إلا بعد موت أبيه.
امتهن قراءة القرآن والإنشاد الدينى واندهش حين علم أن المكفوف يمكنه تعلم العود، فتعلمه فى أربع جلسات فقط.
ثم التقى صدفة الشيخ درويش الحريرى عالم الموسيقى الذى أعجب به وعلمه الموسيقى.
ورغم وحدة الشيخ التى لازمته حتى الموت إذ غادر أهله فى السابعة وماتت أمه ولم ير وجه أبيه بعد الواقعة السابقة أبدا حتى مات وعندها فقط وطئت قدمه أرض بلدته، ولم ينجب أو يتزوج؛ فقد جعلنا نشعر نحن الذين حلمنا بالثورة أننا -بأغانيه- لسنا وحدنا وأننا بأفكارنا الحرة المختلفة وقتها لسنا مجانين. كان معنا يدفعنا ويشاركنا فى كل موقف ومظاهرة، وحضر فى الثورة وصار السلفيون والإخوان وكل الشعب يرددون أغانيه شعارات (الجدع جدع والجبان جبان بينا يا جدع ننزل الميدان). حين سمعت أغنياته تذاع فى التليفزيون بعد الثورة لأول مرة أوشك دمعى أن ينزل وقلت له: الآن يا شيخ إمام تدخل فاتحا كنابليون والخومينى، الآن فقط تدرك الأغنيات قيمتها وقامتها. لقد أعطت أغانى الشيخ إمام العظيم دائما إحساس الأمل والانتصار للمعذبين والمعتقلين والمظلومين والفقراء.
فى البدء كانت أغنيات الشيخ إمام، كانت أغانيه تسبقنا وتحضر معنا، كانت جامعة لنا وإعلانا عنا. ورغم فقر الشيخ الثائر، ظل عفيف النفس لا يطلب من أحد شيئا حتى لو لم يكن فى جيبه مليمات، لم يغن الرجل أبدا من أجل مال كان بحاجة إليه ولا من أجل شهرة تخفف بؤسه، بل غنى الرجل ما اعتقده حقا لوطنه ونفعا لشعبه.
ورغم أن الشيخ العظيم كان وحيدا ضريرا نحيلا فإن شجاعته شارفت شجاعة أمة، لم يكن الرجل يهمس بأغانيه فى حجرة مغلقة مؤمنة من الأمن، ولم يكن يكتب كلمات معارضة ملتفة، بل كان يغنى علنا ويبحث عن أماكن يغنى فيها وهو يعلم أن السجان بانتظاره، نحن الذين لم تكن لنا شجاعته فندعوه دائما لكل أماكننا. وكانت أغانيه الساخرة ضاربة فى رأس السلطة مباشرة بلا مواربة مختصرا الزمن (روقة المجنون أبوبرقوقة بزبيبة غش وملزوقة)، ومحرضا على الثورة (يا شعب مصر يا خم النوم ما تقوم بقى - الثورة قامت فى الخرطوم)، ثم ضامنا الأمل (يا مصر قومى كل اللى تتمنيه عندى)، كان يبعث الأمل بألحانه السريعة القوية. بعد هزيمة 67 بدأت ثورته وخرج يسخر ويقرع رؤوس من جلبوا العار بشدة (خبطنا تحت بطاطنا، يا محلى رجعة ضباطنا من خط النار).
ألا يحق لنا أن نفخر أن لدينا مغنيا شجاعا لهذا القدر وبهذه القيمة؟ ألا يستحق أن نقيم له تمثالا فى ميدان كبير لكى نباهى به؟ الأغانى تنبئ عن الأمم.