إن كان للصعيد أزماته المعيشية والتنموية الخاصة الناجمة عن إهماله المنظّم من قبَل الحكومات المتعاقبة (كما عرضت بالأمس استناداً إلى أحوال أهل محافظتى الأقصر وأسوان)، فإن الترويج لانطباع مؤداه أن الصعيد منقطع الصلة بقضايا السياسة والمجتمع فى عموم مصر هو أمر يجافيه الصواب.
ذات خطوط الاستقطاب والتحزب فى مدن الشمال والدلتا، من تأييد الإخوان إلى الوقوف مع المعارضة أو الميل إلى الأحزاب السلفية، حاضرة فى الأقصر وأسوان. نفس الرفض للأداء الحكومى البائس ولعجز السياسة يسيطر على نقاشات المواطنات والمواطنين فى الصعيد ويعبرون عنه بوضوح فى تعليقاتهم على الأحداث الجارية.
الزعم، إذن، بأن الصعيد بعيد وعازف عن قضايا السياسة والمجتمع غير صحيح، شأنه شأن الادعاء الزائف بأن مواطنات ومواطنى الصعيد يحددون اتجاهاتهم التصويتية فى الانتخابات انطلاقاً من الضرورات المعيشية (أسطورة السكر والزيت) أو تأثراً بالتوظيف غير النزيه للدين فى السياسة (أسطورة المواطن أحادى التكوين الذى يتشكل وعيه فقط فى المساجد والزوايا) أو استجابة إلى النوازع الدنيا للطائفية. فمحافظات الصعيد، وما زلت مع الأقصر وأسوان اللتين جُلت بهما خلال الأيام الماضية، بها طبقات من الوعى السياسى والعام أكثر عمقاً بكثير من هذا، ومن اختزالها إلى مفردات العوز (بالمعنى المعيشى) وتسييس الدين والطائفية.
إلا أن الدقيق والصحيح حين مقاربة أوضاع الصعيد هو فهم خصوصيته المرتبطة بتاريخه السياسى ودور السلطة المركزية به، فالمواطن فى الأقصر وأسوان، وإلى الشمال منهما فى قنا وسوهاج وأسيوط والمنيا، وبعد حقب ممتدة من الإهمال والتهميش من قبَل السلطة المركزية لا يثق بالأخيرة ولا ينتظر منها عدلاً أو مساواة أو تنمية. سقف توقعات المواطن فى الصعيد هو تنظيم الحقوق فى المياه الضرورية للرى وللزراعة، وحد أدنى من الأمن لإدارة الحياة والشأن العام. تاريخياً، أعطى هذا مساحة واسعة للعصبيات وللعائلات الكبيرة للحفاظ على روابطها وتقديم خدمات الحماية والتعبير عن المصالح لأعضائها، ولحقت بها تالياً (خلال العقود الأخيرة) جماعات اليمين الدينى ومنظمات مرتبطة بالكنائس. لذلك يتأثر وعى المواطن فى الصعيد بدور هذه العصبيات والجماعات والمنظمات، بل ويتبلور معها على نحو معارض للسلطة المركزية ومن يسيطر عليها.
نعم، اهتز هذا بعد ثورة يناير على وقع تحول بعض معارضى الماضى، تحديداً اليمين الدينى، إلى الحكام الجدد. فقد صوتت أغلبيات واضحة فى الصعيد مع اختيارات الإخوان والسلفيين فى العامين الماضيين، من التعديلات الدستورية فى 2011 مروراً بالانتخابات البرلمانية والرئاسية ووصولاً إلى الاستفتاء على دستور 2012، إلا أن الصعيد يبدو اليوم وعلى وقع استمرار إهماله المنظم من قبَل الحكم الإخوانى وسوء أداء السلطة المركزية، بل وتعثر توفيرها لتنظيم الرى والزراعة (أزمة الديزل القادمة) وحد أدنى من الأمن، مؤهلا للعودة مجدداً لتاريخه الطويل فى معارضة السلطة المركزية.
الأقصر وأسوان يضجّان بالرفض للحكم الإخوانى وقوى اليمين الدينى التى تحمل مسئولية تدهور الأوضاع المعيشية وسوء الأداء الحكومى وتجاهل أولويات التنمية فى الصعيد، ولم يعد التوظيف غير النزيه للدين بكاف لتجاوز كل هذا. رفض واضح للحكم ومعارضة للسلطة المركزية، وبحث عن بديل فعال للإخوان والسلفيين لم يجده المواطن فى الصعيد بعد، فالنظرة لأحزاب وقوى المعارضة الليبرالية واليسارية هناك ليست بأقل تعاسة من الإخوان.