خلال الأيام الماضية، وقبل إطلاق سراح الجنود المصريين الذين اختُطفوا فى سيناء، استنسخ بعض ممارسى السياسة بين ظهرانينا خطاب «الحرب على الإرهاب» الأمريكى وأنتجوا مصريا، وهم يقاربون الوضع فى سيناء، الشعارات الأثيرة لإدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش مثل «تصفية الإرهابيين» و«لا للتفاوض مع الإرهابيين» و«أولوية الحل العسكرى والأمنى» وغيرها. ومع عسكرة خطاب هذه المجموعة من ممارسى السياسة، همشت إلى حد بعيد حقيقة أن الحل العسكرى والأمنى هو جزء ضرورى من استراتيجية أشمل وأن للحفاظ على أرواح المدنيين والعسكريين وعدم إراقة الدماء أولوية حقيقية. ثم أطبق الصمت على حقيقة الأزمات التنموية فى سيناء والمظالم التى يعانيها أهلها بعد عقود من الانتقاص من حقوقهم وحرياتهم والتعامل الأمنى القمعى (عبر جهاز أمن الدولة السابق) معهم.
وحسناً فعلت أجهزة الدولة المصرية التى أدارت أزمة الجنود المخطوفين بتوظيفها الأدوات العسكرية والأمنية، وبعدم الاندفاع نحو عملية عسكرية غير مأمونة العواقب، وبنجاحها بالتعاون مع أهل سيناء فى إطلاق سراح الجنود دون إراقة للدماء. ويحسب للأجهزة الاستخباراتية المصرية، ولا يعيبها، كونها تواصلت وربما تفاوضت مع خلايا العنف والإرهاب المسئولة عن خطف الجنود بهدف تحريرهم دون إزهاق للأرواح، بما فى ذلك أرواح الإرهابيين الذين يظلون على إجرامهم مواطنين مصريين مسئولية الدولة إزاءهم هى منعهم من الإجرام وممارسة العنف وتطبيق القانون عليهم بتقديمهم للعدالة ومن ثم الحفاظ على أرواحهم وتجنيب المجتمع شرورهم.
فى المقابل، من حق الشعب المصرى أن يعرف، وبشفافية كاملة، شروط المفاوضات التى قد تكون قد دارت مع خاطفى الجنود، والمقابل إن كان هناك مِن مقابل قُدم لهم يتناقض مع سيادة الدولة وسيادة القانون وتطبيق العدالة (وهو ما لا أتمناه). ومن حق الشعب المصرى أن يعرف، وبشفافية كاملة أيضا، خطة الرئيس والحكومة للتعامل مع ملفات سيناء الرئيسية والبدء فى تنمية حقيقية ورفع المظالم المتراكمة بغية التأسيس لمواطنة حقوق متساوية لأهل سيناء ومن ثم إعادة بناء سيادة وهيبة الدولة وتجفيف منابع العنف والإرهاب، بجانب الحلول العسكرية والأمنية الآنية والجزئية (وهى ليست بإطلاق النار فقط، بل بالردع والضغط وغيرهما من طرائق توظيف الدولة لقوتها).
من جهة أخرى، خاب خطاب هذا البعض من ممارسى السياسة الذين روجوا لشعارات «الحرب على الإرهاب» وتحولوا جميعا إلى جنرالات عسكريين وقادة محتملين لعمليات القوات الخاصة وتجاهلوا بالكامل القصور البنيوى والدائم للحلول العسكرية والأمنية بمفردها. وسقطت فى هوة طائفة قليلة من مدعى الليبرالية ومعلنى الانتماء للفكر القومى والعروبى حين تورطت فى المزايدة السياسية الرخيصة على رئيس الجمهورية باتهامه بالتواطؤ مع خلايا العنف والإرهاب.
أعارض رئيس الجمهورية، ورفضت المشاركة فى جلسة الحوار التى عقدها مع القوى السياسية لغياب الشفافية عن ملفات سيناء طوال الأشهر الماضية ولعدم معرفتى بالسياسات المتبعة فى سيناء وللانتقائية الشديدة فى الانفتاح المعلوماتى على المعارضة. أعارض رئيس الجمهورية، وطالبته مرارا بإخبار الرأى العام بالحقائق بشأن قتل الجنود المصريين فى رمضان الماضى وأسباب عدم تقديم قتلتهم إلى العدالة إلى اليوم. إلا أن تخوين رئيس الجمهورية، الذى أدعوه لأسباب معروفة لأن يقبل إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، أو التعاطى مع ملفات سيناء بمنطق التنازع الحزبى، الذى تتصاغر قيمته بحسابات المصلحة الوطنية، لا يمكن أن يقبلا وليس لهما إلا أن يرتبا فقدان كامل المصداقية الأخلاقية والوطنية لمن يتورط بهما.
حين أكدت إعلاميا، قبل إطلاق سراح الجنود المصريين، قصور الحل العسكرى والأمنى بمفرده وأهمية الحفاظ على الأرواح وعدم إراقة الدماء وابتعاد المدافعين عن حقوق الإنسان والديمقراطية عن استنساخ خطاب الحرب على الإرهاب الأمريكى، اتهمت من حيث لا أدرى وبلا مضمون بممالأة رئيس الجمهورية والإخوان. حين رفضت لقاء الرئيس وانتقدت غياب الشفافية وحضور الانتقائية فى التعامل مع ملفات سيناء ثم طالبت باستثمار النجاح فى إدارة أزمة الجنود المخطوفين لاحترام حق الرأى العام فى معرفة حقيقة الأوضاع فى سيناء وتطوير سياسة متكاملة للتنمية ورفع المظالم عن أهلها، خونتنى لجان الإخوان الإلكترونية واتهمتنى بالنقد للنقد.
هكذا تختبر السياسة وصيرورة أحداثها وعنف مواجهاتها فى بلادنا اتساق كل ممارس لها مع ضميره ومع مبادئه المعلنة، ولا ينجو من دائرة فقدان المصداقية الجهنمية فى السياسة إلا من يتمسك بالمبادئ ويبتعد عن مغازلة الشارع بما لا يثق فى صوابه فقط لنيل القبول الشعبى اللحظى ويمتنع عن المزايدة الرخيصة لتحقيق المكاسب السريعة. فلا القبول الشعبى يدوم وليست المكاسب السريعة صنو سياسة رشيدة تحقق الصالح العام.