سافر العالم المصرى الشيخ رفاعة الطهطاوى ضمن أول بعثة مصرية خرجت من مصر إلى فرنسا، التى أرسلها محمد على باشا إلى فرنسا عام ١٨٢٦ على متن السفينة الحربية الفرنسية (لاترويت)، وكانت تضم أربعين طالباً لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وعاد الطهطاوى عام ١٨٣١ ليفتتح بعدها بأربع سنوات مدرسة الترجمة التى صارت بعد ذلك مدرسة الألسن، ومن هنا عرفت مصر فى أزهى عصورها الترجمات واللغات.
وحديثنا اليوم عن اللغات، فعندما يولد الرضيع يظل عدة شهور لا يسمع ولا يشعر إلا بأمه ليبدأ بعد ذلك فى الاستماع للأصوات المحيطة به ويقوم عقله الباطن بتخزينها وبعد عامين يبدأ ترديد الكلمات ويعلن للعالم كله لغته.
ولمن لا يعرف فإنه بناء على التقرير الذى نشرته منظمة اليونيسكو، التى تسعى إلى توثيق كل ما يرتبط بالثقافة والتراث والآثار عند شعوب العالم، فقد قدرت عدد اللغات الموجودة فى العالم بـ٧٠٠٠ لغة وتتوزع وفقاً للبلدان التى تتحدث فيها والمناطق السائدة بها فى أنحاء العالم، ولكن أغلب هذه اللغات لم تعد تستخدم بل انحصرت بمجموعة من اللغات، التى تعد أكثر تداولاً واستخداماً بين الناس وذلك بسبب حرصهم للمحافظة على التحدث بها وتناقل مفرداتها وتعابيرها بينهم عبر الأجيال المختلفة، وفى الأمم المتحدة توجد ست لغات رسمية فقط، هى العربية والإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية والصينية وتمثل الترجمتان النصية والشفهية الفورى من إحدى هذه اللغات إلى إحداها الآخر أمراً ذَا بال لعمل الأمم المتحدة، ذلك أنهما سبيل التواصل الواضح والموجز بشأن القضايا ذات الاهتمام العالمى، ومن الطريف أن إدارة الأمم المتحدة للإعلام اعتمدت يوماً لكل لغة للاحتفال به سنوياً، ويعتبر يوم ١٨ ديسمبر يوم اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية فى الأمم المتحدة يومها الذى يحتفل به، أما اللغة الإنجليزية فقد اختاروا لها ٢٣ أبريل، وهو ذكرى وفاة الكاتب الإنجليزى وليام شكسبير، أما الفرنسية فيحتفلون بها ٢٠ مارس الذى يوافق يوم الْيَوْمَ الدولى للفرانكوفونية، وفى ٦ يونيو يوم اللغة الروسية يوافق ذكرى ميلاد الشاعر الروسى ألكساندرا بوشكين، أما الإسبانية فقد اختاروا لها ٢٣ أبريل وهو يوم الثقافة الإسبانية، أما اللغة الصينية فيحتفلون بها ٢٠ أبريل تخليداً لذكرى مؤسس الأبجدية الصينية، حيث يوافق يوم مولده.
وبعيداً عن الترجمة والثقافة والأمم المتحدة توجد لغات أخرى لا تقل أهمية عن تلك التى نتحدث بها، بل إنها الأبقى والأقوى والخالدة على مر العصور، التى لا تحتاج لتعلم أو مترجم.
ولنبدأ بلغة الجسد، التى تلعب دوراً مهماً فى حياتنا، فهى الحركات التى يقوم بها الإنسان بأيديه وتعبيرات وجهه وحركات الرأس بل وطريقة الجلوس، فكل هذه العناصر هى طريقة للتواصل غير اللفظى، التى يمكن من خلالها إيصال الأفكار والمشاعر للآخرين، ولا يتوقف الأمر على ذلك فقط فى لغة الجسد فقد أصبحت من أهم ما يتم رصده من أجهزة المخابرات على مستوى العالم لتحليل شخصيات القادة والزعماء ومرشحى الرئاسة وأصحاب كبرى الشركات والمسيطرين على اقتصاد العالم، حيث يقومون برصد جميع تحركات تلك الشخصيات وطرق تحدثهم بل ونبرات أصواتهم لتحليلها والخروج منها بنتائج تستخدم ضد هؤلاء لإسقاطهم أو العكس.
ومن أهم عناصر لغة الجسد لغة العيون، ويقول الأدباء والشعراء إن العيون هى مفتاح الروح وعنوان الرسالة المراد إيصالها، فهناك العيون الساحرة والواثقة والجريئة والضعيفة والقوية والمتمة، بالإضافة للعيون المحبة والكارهة، فلكل حركة من العين معلومة خاصة، أما لغة الفم والشفتين فقد تدل على الثقة بالنفس أو الخوف أو شخصية صاحبها إن كان مهذباً أو وقحاً، وكذلك الابتسامة منها الخبيث أو الصادق وحتى حركة الأذرع والأصابع تترجم فى لغة الجسد إلى انشغال أو توتر أو تفكير عميق أو الإجهاد والانتعاش والسعادة.
ونأتى للغة الهدايا، التى يصنفها دارسو الإتيكيت بأنها أرقى اللغات، فأنت تختار هديتك لتتحدث بدلاً منك دون مترجم، فالزهور أغلبها للمشاعر الدافئة من حب وصداقة وتمنيات بالشفاء وتهنئة بالنجاح والترقى، والموسيقى تترجم أيضاً جميع المشاعر فالسيمفونيات العالمية للمثقفين والمبدعين والأغانى العاطفية للمحبين والأغانى الوطنية للأحداث السياسية والقومية ولا يخلو الفلكلور المصرى من الطابع الخاص لهداياه وأغانيه التى خرجت من لغة الضاد، ويكفى أن نذكر اللغة الخاصة التى تترجم فرحة المصريين بالزواج من قديم الزمان وفى القرى والنجوع، فنجد هدية الزفاف التى تقدمها أم العروسة والتى يطلق عليها (حلة الاتفاق) وهى الترجمة الحرفية لعشاء غنى ودسم يتناوله العروسان فى أول ليلة لهما معاً.
ولا يكتفى المصريون بالفرح فيترجمون مشاعرهم بالهدايا والأغانى، فإنهم يفعلون نفس الشىء مع الأحزان، حيث نرى (الندابة والمعددة) التى عرفها المصريون قديماً لتترجم مشاعر الحزن والألم على فراق الأحبة، وهكذا يظل التراث الشعبى المصرى هو الأغنى فى عالم الترجمة، ويظل الشيخ رفاعة الطهطاوى رائد اللغات والترجمة فى عالمنا العربى.