دعتنى كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر لمحاضرة للطلبة الإندونيسيين، جاءتنى الدعوة الكريمة من د. جمال فاروق، الذى يتمتع بثراء إنسانى وزهد وتصوف مع فكاهة راقية وتواضع جم، ويجمعنى به حب صاف، فلم نلتق يوماً على مصلحة أو دنيا.
تحدث رئيس اتحاد الطلبة الإندونيسيين، بانجيران إحسان الحق، فقال: تركنا آباءنا وأمهاتنا وبلادنا لنأتى إلى الأزهر الذى يمثل لنا الأب والأم والوطن الثانى، إننا نجد ذواتنا فى الأزهر.
همست فى أذن د. جمال: هؤلاء جاءوا من أقصى الدنيا توقيراً للأزهر، وبعض بنى جلدتنا يتمنى أن يستيقظ صباحاً فلا يرى للأزهر وجوداً، وافقنى بألم.
تحدث مقدم الحفل الإندونيسى بلغة عربية رائعة لا يستطيع بعضنا أن يتكلم بمثلها، فلم يخطئ أو يلحن فى كلمة، كيف وصل هؤلاء لذلك المستوى وبعض أعمدة المجتمع المصرى الآن لو تكلم عشر دقائق لأخطأ عشرات الأخطاء؟! أعرف السبب لأننى زرت المعاهد الإسلامية الإندونيسية فوجدتها تدرس بالعربية من الابتدائية وحتى الجامعة، طلب منى مدير المعهد الإعدادى والثانوى يوماً أن أتحدث للطلاب بالعربية الفصحى، فعجبت لذلك، فقال: لا تقلق، نحن ندرس مادة أصول الفقه وهى أصعب المواد باللغة العربية.
حينما تذهب إلى جامعة الأزهر أو مدينة البعوث تجد عشرات الآلاف من الطلبة الأفارقة والآسيويين، وأكبر عدد للطلبة الوافدين إلى الأزهر هم الإندونيسيون الذين يعتبرون الانتساب للأزهر أو التعلم فيه أو التخرج منه شرفاً لا يضاهيه شرف.
لقد قلَّ الطلبة الوافدون إلى الجامعات المصرية المدنية بعد أن تدهور مستواها العلمى وأصبحت شهادات بعض كلياتها تباع وتشترى لطلبة الخليج الأثرياء، حيث يذهب طالب الماجستير الثرى إلى أماكن معروفة فى القاهرة ليشترى رسالة جاهزة ويقدمها.
وهناك قوم متفرغون لكتابة الرسائل، فللماجستير ثمن وللدكتوراه ثمن، وحجتهم جميعاً أنهم لم يجدوا باباً للرزق والعمل ولا طريقاً للحصول على الدكتوراه رغم تفوقهم العلمى فتخصصوا فى كتابة الرسائل العلمية للطلبة الأثرياء من دول بعينها.
هذه القوة الناعمة للأزهر يريد البعض أن يحرم مصر منها ومن خيرها، فالإندونيسيون مثلاً لا يعرفون عن مصر سوى ثلاثة: جمال عبدالناصر، أول من اعترف بدولتهم، والأزهر، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد.
فى مقدمة المحاضرة قرأ طالب إندونيسى آيات رائعة ذات مدلول «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً»، حاول أن يقلد الشيخ نعينع على غير عادة كل القراء الإندونيسيين الذين يجيدون تقليد الشيخ عبدالباسط الذى لا ينسى الإندونيسيون أنه قرأ فى مسجد الاستقلال بعد صلاة العشاء فأغلقت جميع الشوارع حوله وتوقف المرور فى العاصمة كلها وظل الناس يلحون عليه بالاستمرار حتى الفجر، وكان ذلك يوماً مشهوداً، كما أن «عبدالناصر» خطب فى هذا المسجد.
بدأت فرقة الإنشاد الإندونيسية الرائعة تشدو بالابتهالات المصرية الرائعة، وهناك فى إندونيسيا يستقبل ضيوف المعاهد بمجموعة رائعة من الإنشاد، فلكل معهد دينى فرقة تتمتع بأصوات رائعة، بكى بعض الحضور تأثراً.
كان عنوان الندوة «كيف نواجه التطرف»، قلت لهم: جماعات التكفير والتفجير مثل «داعش» و«القاعدة» ومن سار على دربهما «ليسوا أبناء النص ولا أبناء العصر»، فهم لم يفهموا النص جيداً ولم يدرسوا عصرهم وواقعهم جيداً، فلا هم اتبعوا النص ولا هم فهموا العصر.
فالإسلام الذى أدخل امرأة النار فى هرة رغم صلاتها وصيامها وأدخل «مومس» الجنة لأنها سقت كلباً يلهث من العطش لا يمكن أن يهتم بقطة وكلب هذا الاهتمام ويدعو لقتل أو ذبح أو حرق أو تفجير الناس، أو يقول بتكريم بنى آدم ويبيح فى موضع آخر ذبحه أو حرقه أو تعذيبه. استأذن د. جمال لارتباطه بموعد الطائرة إلى أسوان بعد أن أمتع الحاضرين بجوامع رائعة، أكمل بعده د. محمود الصاوى، بلدياتى، وكيل الكلية، الذى سوى بين شر الإفراط والتفريط والغلو والتقصير وحذر منها جميعاً وأن البعض يريد أن يحارب الإفراط بالتفريط، أو التشدد بالتحلل من الشريعة.
ما أجمل أن تحيا لحظات فى مجتمع متحاب ودود، وأن تعيش لحظات تسرقها من دنيا الكآبة والتنافس الشرس على الحطام، تحية للأزهر الذى أدعو الجميع لدعمه مادياً ومعنوياً، وتحية لوافدى الأزهر عامة والإندونيسيين خاصة.