بين تحذيرات أمي وبرنامج "خلف الأسوار"
في الأمس عندما كنت طفلة كانت كلمات أمي محددة وموضوعية في أولى رحلاتي للعالم الخارجي.
"فلتحذري الرجل الثلاثيني فما فوق، لا ضير أن تتعاملي معه لكن بحذر، أما من كان دون ذلك سنًا فلن يشكل داخل عقلك أي هجوم فلا تخافي منه، فالنساء في أي سن كان سيحبونك كدمية لديهم أو كطفلة يتمنين اقتناءها وسيراعونك في غيابي، أما الأطفال الصغار وحتى العشرين عامليهم كأصدقاء لطفاء ولكن احذري على ساندوتشاتك وما شابهها من ممتلكاتك الخاصة، فهم يشاركونك نفس الاهتمامات تقريبًا فتعايشي بود تشوبه الحيطة".
عندما استفقت على حالي أكبر قليلاً، وانتقلت إلى مدارس أعلى وصار من المسموح لي أن أذهب بمفردي إلى المدرسة، اتسعت دائرة التحذيرات لتشمل النساء اللاتي تكبرني سنًا، فقد صرت مطمعًا لهن كجسد يغوي الرجال يصلح أن يباع بالبخس، حتى إن ارتكز الأمر على سرقة حلق أذني فهذه خسارة فادحة في قانون أمي، ومع استمراري في النمو استمرت والدتي في توسيع دائرة التحذيرات المرافقة لكل فئة عمرية وتوجه عام أحتك به على مدار يوم، حتى جاءت الطامة الكبرى ببدء بث برنامج "خلف الأسوار" وما شابهه من البرامج تجعلك بكل وعي منك تدرب حالك على نسيان السيناريو الخير، بل التلذذ واختبار مدى عبقريتك في خلق السيناريوهات الأسوأ.
يوهموننا أنه بتلك الطريقة نحمي أنفسنا بتوقعنا الخطوة الأولى للمجرم، وفي هذا التوقيت تحديدًا كانت رقعة المشتبه بهم وتحذيرات أمي قد توحشت لتقضي على الأخضر واليابس، وصار من وجهة نظرها أن تلك هي الآلية الوحيدة لحمايتي بأن تغذي عقليتي من وقت لآخر بسيناريوهات مبتكرة العمق في قانون (ماذا لو!).
أشرفت بود وتفانٍ وحب جنوني في توسيع دائرة سيناريوهاتي المتوقعة نحو الجميع، الذين صاروا في ليلة وضحاها مشتبهًا بهم لتكدير صفو حياتي الهانئة.
كنت أشعر بالشفقة نحوها، كنت أتفهم تمامًا مرجعية تصرفاتها تلك، فهي تحبني وتخاف عليّ حد الجنون وتريد أن تحميني قدر الإمكان كما تكره أن تقيدني لأظل أمام عينيها قابلة للمراقبة وتصحيح المسار طيلة الوقت، تريد لي أن أنمو لأصبح مؤثرة في مجتمع لا يشبهني وفي نفس الوقت تخاف عليّ من الاحتكاكات المرهقة لي، كانت الازدواجية بين احتياجاتها وواجبها في خلق كائن مؤثر في المجتمع تقلقها ليال طوال على مرأى مني حيث يعز عليها النوم وتفاجئني بأسئلة غريبة في أوقات أغرب عن أشياء أغرب وأغرب من منطلق قانون "ماذا لو!"، كانت كل رغبتها أن تتأكد أني جاهزة لخوض تلك الحياة وحدي قدر الإمكان دون أن تقيدني بخوفها فتكون سببًا في أن أموت وحيدة.
حاولت أن تنقل لي قلقها من وقت لآخر، وحاولت بذكاء المرأة الذي أقدره لديها أن تحوّل الأمر إلى لعبة مسلية نضيع بها الوقت، كنا بين الحين والآخر نتبارى في خلق السيناريو الأكثر التواءً وسينمائية، وبهذا ظهرت لعبتنا الأبقى والخاصة بوسائل المواصلات، لعبة (الحاسة السادسة).
كانت تقترح مجموعة من المعطيات لحدث غريب وتسألني ماذا كنت لأفعل لو مررت بموقف كهذا، في البداية كانت القصص بسيطة، على سبيل المثال: أن يستوقفني أحد المارة ليسأل عن مكان ما، لكن مع الوقت أصابت قصصها نفس عدوى العمق والالتواء التي تتحفنا بها مذيعة برنامج خلف الأسوار.
أخبرتني أمي في يوم ما حين أصابتني نوبة ضيق من أسئلتها المتكررة المستفزة لعقلي بعد أن أصبحت واعية بالقدر الكافي فلم أعد أصدق أنها مجرد لعبة لتقضية الوقت في وسائل المواصلات، أخبرتني أمي وكأنها ساحرة تفضح لي سر المعبد المهجور، لا زلت أذكر رنة صوتها وهي تخبرني بصدق تام كافٍ لإسكات أي عصب متسائل في عقلي.
قالت: "تلك الحاسة السادسة صفة تختصنا نحن معشر النساء، طالما أنك سيدة فأنت تمتلكينها، وهي الاستشعار عن بعد أو شفافية الشعور بالحدث قبل وقوعه، لكنها مكتسبة واكتسابك لها ومدى جدارتك بها يأتي من التدريب فتنمو معك أكثر وأكثر، لكن إن أهملتها فأنت لا تستحقين امتلاكها ستنزوي عنك وحينها أنت الخاسرة الوحيدة.
بهذه الطريقة استطاعت أن تجذب انتباهي أنا الطفلة ذات العشر سنين، بل تركتني صامتة أتدرب على نفس النهج حتى أستحق تلك الحاسة السادسة المكتسبة بالتعلم، والتي هي من حقي آجلاً أو عاجلاً لكوني امرأة، لكني رغم ذلك سأتدرب وأتدرب حتى أستحقها بجدارة.
تابعت النمو دون قصد وصارت معطيات العالم من حولي أكثر إرهاقًا، وأنا على نفس نهج أمي في توقع كل السيناريوهات السيئة التي قد يفاجئني بها الكوكب في كل خطوة قد أخطوها نحو يوم جديد فيبدأ عقلي في تهدئتي وتوقع حل أو مخرج لتلك الأزمة التي توقعتها من الأساس وصار اليوم أثقل من أن يحتمل.
تفاجأت أمي من رفضي الزواج وخوفي من إنجاب أطفال ولم تتوقع ردي حين أخبرتها أننا ضحية لنظام ماسوني لم يكفه ثوره يناير لنتخلص منه بينما دربنا لثلاثين عامًا أن الجلوس خلف الأسوار هو الأمان الكامل.
منذ يومين قرأت أن العالم ينهار وأن كائنات فضائية تعرض أن تحتل الكوكب، لما قد أهتم فقد انهار عالمي منذ أن أذيع برنامج خلف الأسوار ومنذ ذلك اليوم تركوني هناك خلف تلك الأسوار الرثة أعاني فوضى الاحتمالات وحدي.