أحرص فى شهر رمضان على عدة طقوس، منها عادة الإفطار مع عائلتى المُمتدة فى قريتى بدّين، وعلى إفطار جماعى لأصدقاء وأمناء مركز ابن خلدون، وإفطار لأصدقائى من فلول النظام السابق، وقراءة ما فاتنى أو أجّلت قراءته إلى أن يتوفر وقت هادئ بعيداً عن روتين حياتى اليومية المزدحم بمُقابلات طُلابى، أو الصحفيين، أو الزائرين الأجانب.
وضمن ما استمتعت به للغاية فى رمضان هذا العام قراءة كتابين، أولهما لمؤرّخ هاوٍ من أبناء الطبقة الأرستقراطية، هو سمير وحيد رأفت، والثانى للصحفى النابه والروائى المُبدع إبراهيم عيسى.
بالنسبة لسمير وحيد رأفت (ابن الفقيه الدستورى الراحل د. وحيد رأفت)، كنت قد قرأت له قبل سنوات كتاباً رائعاً عن حى «المعادى»، الذى كان إلى أواخر القرن التاسع عشر، قرية صغيرة على الشاطئ الشرقى للنيل، فى مواجهة حى الجيزة على الجانب الغربى، وتقع فى مُنتصف المسافة بين القاهرة وحلوان. ولخصوبة تربتها، وقربها من مدينتى القاهرة وحلوان، تحوّلت إلى مزارع وبساتين وحدائق، تزود المدينتين بالخضراوات والفواكه، وبعد الاحتلال الإنجليزى لمصر اكتشف المدنيون الأجانب المُصاحبون للاحتلال، جمال وهدوء المعادى، فنشأت شركة بلجيكية، قامت بشراء أراضٍ شاسعة وتعميرها على الطراز الأوروبى. وتعاقبت على سُكناها عدة جاليات أجنبية إنجليزية وفرنسية وإيطالية ويونانية وأرمنية. وهو ما كان قد حدث بالتوازى فى «ضواحى» جديدة أخرى أهمها الزمالك، وجاردن سيتى، ومصر الجديدة. ولم يفت الطبقة الأرستقراطية المصرية أن تشارك الغُزاة الأجانب نفس المناطق السكنية، بشوارعها الفسيحة، وحدائقها وقصورها، وخدماتها المُتميزة، فى التعليم والصحة والأمن والرياضة. وفى ذلك الكتاب المُبكر رصد سمير وحيد رأفت أهم معالم المعادى، وعائلاتها، المصرية أو المُتمصرة. وأهم الأحداث التى كانت جزءاً من التاريخ المصرى العام، أو تلك التى عكست خصوصية المكان خلال القرن (1880-1980).
أما كتابه الثانى الذى فرغت من قراءته فى رمضان الحالى فهو بعنوان «ثلاثة أجيال محظوظة» (Three Privileged Generation) وهو دراسة مُفصلة لإحدى عائلات مُحافظة الشرقية، وهى عائلة «الشمسى» أفندى، ثم الشمسى «بك»، ثم الشمسى «باشا». وكيف أن أصولها الشركسية من أواسط آسيا اختلطت بفروع ألبانية من البلقان خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومع النهضة المصرية فى أوائل القرن العشرين، تزاوجت هذه الأسرة مع عائلات من كبار أصحاب الأراضى الزراعية فى المُحافظات (المُديريات) الثلاث المُجاورة: الدقهلية والغربية والقليوبية، وكرّست مكانتها الاجتماعية، بنفوذ إدارى فى مناصب العُمد والمُديرين، ثم بالترشح للمجالس البلدية، ثم للبرلمان، بمجلسى النواب الشيوخ. بل وحرصت هذه الأسرة (الشمسى) على أن يكون من أفرادها «أزهريون» ومشايخ طُرق صوفية. واستطاعت العائلة بهذه التركيبة وتلك الطريقة أن تكون ملء الأسماع والأبصار، لا فى مديرية الشرقية ومدينة الزقازيق وحدهما، ولكن أيضاً فى القاهرة، وخاصة فى صحيفتى «الأهرام» و«المقطم». ولكن مع ثورة يوليو، انقطعت سُبل الجيل الرابع عن مواصلة السعى للسلطة والنفوذ والأضواء. هذا فى الوقت الذى ارتفع شأن عائلتين منافستين فى محافظة الشرقية إحداهما عائلة «أباظة»، والثانية عائلة «مرعى». إن كتاب سمير وحيد رأفت هو نوع فريد من التأريخ الاجتماعى السياسى، الذى يُمتع القارئ بقدر ما يُثرى معرفته ويُنير بصيرته عن أحوال البلاد والعباد فى مصر المحروسة قبل قرن ونصف من الزمان.
أما الكتاب الثانى الذى استمتعت للغاية بقراءته فى رمضان، فهو رواية للصحفى المعروف والروائى الفذ إبراهيم عيسى وعنوانها «مولانا».
ورغم أن تاريخ ظهور طبعتها الأولى هو يونيو 2012، فإنها نفدت بسرعة خلال شهرها الأول، وهو ما يحسده عليها أى أكاديمى «غلبان» لا تنفد الطبعة الأولى من أعظم كتبه إلا خلال سنة.. وفى الغالب ثلاث سنوات.
وتدور أحداث الرواية حول شيخ أزهرى شاب هو د. حاتم، الذى تؤدى صدفة ظهوره فى أحد البرامج التليفزيونية، كبديل لشيخ آخر، إلى بداية سلم الشهرة، فاستغلها خير استغلال، بقدر ما استغلته الفضائيات. ومع الشهرة جاءت الثروة، ومع الشهرة والثروة جاءت النساء، ومعهن المجون والطرب. وفى أثناء ذلك كله لم يصمد زواجه، الخالى من الحُب أصلاً، والذى استمر فقط بقانون «القصور الذاتى». كما تحفل الرواية بعدة قصص موازية للمحور الأول، منها قصة الشاب حسن، الذى افتتن بالشيخ حاتم، فهجر أسرته ذات الجاه المالى والنفوذ السياسى ليعيش فى عالم الشيخ حاتم، ثم تدريجياً ليعيش فى منزله، كأنه أحد أفراد أسرته. ولكن تدين حسن الذى بدأ وسطياً، أزهرياً، يتحول إلى إسلام تطرفى مُتشدد، ينتهى به إلى تدمير كنيسة وقتل عدد من روادها أثناء تأديتهم لقداس أحد الأعياد المسيحية. ولم يكن أحد ليصدق ما صدر عن الشاب الوديع لولا أن كاميرتين، إحداهما عند مدخل الكنيسة والثانية عند مدخل البنك المُقابل للكنيسة فى نفس الشارع قد سجلتا الحادث، وحسن يقوم بعملية زرع المتفجرات، ثم تفجيرها بجهاز للتحكم عن بُعد، ثم مراقبة المشهد بأعصاب باردة، وكأنه يتفرج على فيلم سينمائى.
وتقع رواية إبراهيم عيسى فى 550 صفحة، ولأنها تحكى قصة مصر، المجتمع والدولة، الثقافة والخرافة، الفضيلة والرزيلة، المحبة والتعصب، ليس فى ثنائيات قُطبيّة بسيطة أو مسطحة، ولكن بحبكة الروائى المتمكن، وبمهارة غواص، كما لو كان عالماً ضليعاً للنفس والاجتماع. وبهذا المعنى فهى عمل ملحمى، فى مصاف «قصة مدينتين» للإنجليزى تشارلز ديكنز، أو «الحرب والسلام» للروسى تولستوى، أو رائعة باسترناك (دكتور زيفاجو)... كما أنها استمرار موفق لمدرسة الروائى العظيم، وأمير الرواية العربية نجيب محفوظ، الذى تحاكى ثلاثيته الشهيرة (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) تاريخ مصر الاجتماعى فى النصف الأول من القرن العشرين. فرغم أن ملحمة «مولانا» قد كتبت عامى 2009 و2012، فإنها تحكى تراجيديا مصر المُباركية بتكثيف مُنقطع النظير فى دقته الاجتماعية وتشويقه الروائى. لذلك تستحق جائزة الدولة فى الأدب رواية مثل «مولانا» لكى تبعث فيها الحياة بعد أن خنقت هذه الجائزة مجاملات موظفى وزارة الثقافة، فلم يعد يأبه بنتائجها غير عشرات ممن يمنحونها ومن يتلقونها، سنوياً. فهل هناك من يسمعون أو من يقرأون!؟
وعلى الله قصد السبيل