14 يوماً فوق سطح المياه تمحو «ذكريات الدم والرصاص»
لم تكن الساعة قد جاوزت الثانية من صباح يوم الاثنين قبل الماضى حين شهد مَرسَى فندق إيزيس بمدينة الأقصر نشاطاً ملحوظاً. بحار شاب فى زى أزرق قاتم يفك حبلاً غليظاً مربوطاً فى عمود حديدى قصير، وموصولاً من طرفه الثانى بباخرة صغيرة تقف إلى جوار المَرسَى، يلقى البحار بطرف الحبل الذى فكه للتو باتجاه الباخرة وهو يصيح «شد يا ريّس»، يمد شاب آخر داخل الباخرة فى نفس الزى الأزرق يده ليشد الحبل ويكوّمه على أرضية الباخرة ثم يرفع رأسه إلى كابينة صغيرة تقع فوقه مباشرة ويصيح بدوره «تمام يا ريّس»، يلتقط ريّس المركب الموجود داخل الكابينة «التمام» من مساعده الشاب فيحرك الدفة بكلتا يديه، ويدفع بمركبه ناحية الشمال فى اتجاه القاهرة لأول مرة منذ 15 عاماً بالتمام والكمال.
تخوض الباخرة السياحية «Club vision» رحلتها من أسوان إلى القاهرة كأول رحلة عبر النيل بين المدينتين منذ سبتمبر 1997، عقب حادث إطلاق نار قام به 6 من أعضاء الجماعة الإسلامية بمصر أمام معبد حتشبسوت بالدير البحرى بمدينة الأقصر، وراح ضحيته ما يقرب من 60 سائحاً من جنسيات مختلفة، بالإضافة إلى 4 مصريين بينهم مرشد سياحى كان مصاحباً لأحد الأفواج. وقتها رأت الجهات الأمنية أن تُوقف الرحلات النيلية، التى ظلت تقطع النيل ذهاباً وعودة لسنوات طويلة، لأجل غير مسمى، واقتصرت الرحلات النيلية فقط على الإبحار بين أسوان والأقصر، وقنا فى بعض الأوقات، ثم العودة مرة أخرى.[Image_2]
على أن الكساد الذى ضرب سوق السياحة فى مقتل بعد ثورة يناير بسبب عدم الاستقرار، دفع المسئولين للتفكير فى وسائل لجذب السياحة من جديد. «إحنا عندنا علم بالرحلات دى من شهر مايو اللى فات» يتحدث الكابتن أحمد حمدى مدير مركب «Club vision»، يقول إن القرار الذى وصلهم وقتها كان عبارة عن رسالة من وزارة السياحة فحواها «استعدوا لعودة الرحلات النيلية بين أسوان والقاهرة»، ولأن البواخر السياحية كانت تعمل بالفعل ما بين الأقصر وأسوان كما يقول حمدى، فإن الموضوع لم يتطلب منهم جهداً كبيراً، فقط إعداد برنامج زيارات مصاحبة للرحلة يمر فيه السائح على مجموعة الآثار المنتشرة فى المحافظات المختلفة، يتم تسويقه خارجياً، وهو ما أثمر سريعاً عن مجموعة سائحين من ألمانيا اختاروا أن يكونوا زبائن الرحلة الأولى.[Image_3]
الباخرة نفسها وقع عليها الاختيار للقيام بالرحلة بسبب مناسبتها لعدد 32 سائحاً ألمانياً ضمهم الفوج السياحى الأول، وهى تحتوى على 21 كابينة ما بين فردية ومزدوجة، وكافيتريا، وبازار، ومطعم، ومخزن، وغرفة قيادة، وصالة استقبال، وحمام سباحة، وروف رائع يمتد بطول سطحها العلوى. يعمل عليها طاقم إبحار مكون من ثلاثة رؤساء للمركب، وخمسة بحارين، وعدد ثلاثة عمال لخدمة الغرف يرأسهم مدير، وكذلك عمال للمطعم والكافتيريا، وموظفون للاستقبال، وشيف مسئول عن تجهيز ثلاث وجبات يومياً.
بعد إعداد الباخرة للرحلة، تم إبلاغ الجهات الأمنية التى منحت تصاريح الإبحار فيما بين أسوان والقاهرة، مع توفير لنش بحرى تابع للمسطحات المائية، ولنش للإنقاذ النهرى، وعدد من أفراد الشرطة يوجدون بصفة مستمرة على متن الباخرة بصحبتهم جرينوف مثبت على السطح، وفى النهاية التنسيق مع مديريات الأمن بمختلف المحافظات التى ترسو بها الباخرة لتوفير قوة حراسة تصاحب الفوج السياحى أثناء تنقلاته.
بدأت الرحلة بتوافد السائحين على الباخرة حوالى الحادية عشرة مساء يوم الثلاثاء 21 أغسطس حيث استقبلتهم الشركة بحفل نوبى على سبيل الترحيب، وفى صباح اليوم الثانى استعد الجميع لبرنامج الزيارات، فتحركوا بعد أن تناولوا إفطارهم بصحبة مرشدهم أحمد منتصر لزيارة السد العالى ومعبد فيلة، ثم فى اليوم الثالث استقلوا أتوبيسات سياحية لزيارة معبدى رمسيس الثانى ونفرتارى بمدينة أبوسمبل، وعادوا فى نهاية اليوم ليلتقوا محافظ أسوان الذى جاء للترحيب بهم، وتقديم هدايا رمزية من أوراق البردى المرسوم عليها مناظر فرعونية، ولم يكد المحافظ ينصرف حتى تحركت الباخرة إلى كوم أمبو.
فى تمام الثامنة والنصف من صباح اليوم الرابع وصلت الرحلة إلى كوم أمبو، زار السائحون المعبد، ثم عادوا مرة أخرى للإبحار لمدينة إدفو التى وصلتها الباخرة حوالى الثالثة عصراً، وبعد زيارة معبد إدفو تحركت الباخرة إلى مدينة إسنا حيث بلغتها فى الليل، وفى صباح اليوم الخامس زار السياح معبد إسنا، قبل أن تتحرك بهم الباخرة فى اتجاه الأقصر، تتوقف قليلاً ريثما تفتح قناطر إسنا، ثم تبحر ناحية الشمال.
مع دخول الليل تصل الباخرة للأقصر حيث يستقبلها المحافظ، ويقدم لركابها هدايا تذكارية، يقضى السائحون ليلتهم داخل كبائنهم، وصباح اليوم السادس يبدأون برنامج زيارات مكثفة لآثار البرين الغربى والشرقى، وينتهون منها بنهاية اليوم، قبل أن تبحر الباخرة إلى قنا.
فى قنا، التى يصلها السائحون صباح اليوم السابع، تظهر أولى مشاكل التأمين الأمنى، إذ بدلاً من أن ترسو الباخرة فى مدينة دندرة لزيارة معبدها، ثم تتحرك لمدينة نجع حمادى حتى تبيت، وتتحرك فى الصباح للبلينا بسوهاج لزيارة معبد أبيدوس، تطلب الجهات الأمنية الرسو والمبيت فى مدينة قنا لسهولة التأمين، مع التنبيه على عدم الوقوف فى نجع حمادى والبلينا لدواعٍ أمنية، الأمر الذى يعنى أن ترابط الباخرة فى قنا، ويتحرك السائحون فى أتوبيسات سياحية لزيارة كل من معبدى أبيدوس ودندرة، على أن تكون المحطة التالية للباخرة هى مدينة سوهاج، وفى كل الأحوال لا يسمح بالإبحار ليلاً على الإطلاق مهما حدث.
بالفعل يتم تنفيذ المخطط الأمنى للرحلة، فينتقل السائحون بأتوبيس سياحى إلى مدينة البلينا لزيارة معبد أبيدوس بصحبة دورية شرطة مكونة من بوكس محمل بالجنود المدججين بالسلاح يسير فى المقدمة، وسيارة جيب ممتلئة بجنود آخرين تسير خلف الأتوبيس، وطوال الطريق، كان على سائق الأتوبيس أن ينتظر السيارة الجيب إذا حدث وتأخرت قليلاً، الأمر الذى ضاعف وقت الرحلة، فيقطع الأتوبيس المسافة من قنا ومعبد أبيدوس فيما يقرب من ثلاث ساعات، وبعد انتهاء الزيارة يعود الأتوبيس بالسائحين مرة أخرى فى حراسة الشرطة إلى قنا.
يتناول السائحون غداءهم ويتحركون إلى معبد دندرة، فيقومون بجولة سريعة بسبب إصرار رجال الأمن فى المعبد على إخلائه قبل الخامسة مساءً، رغم تأكيدهم على تفهمهم لطبيعة الرحلة، وما ضاع منها فى الصباح الباكر، تنتهى الجولة داخل المعبد بسرعة، ويعود السائحون للباخرة لتناول طعام العشاء، ثم يتوجهون لمنطقة الكورنيش، حيث يستقبلهم اللواء عادل لبيب محافظ قنا، ويحضر معهم عرضاً راقصاً تقدمه فرقة سوهاج للفنون الشعبية، نظراً لغياب فرقة قنا التى تحضر أحد المهرجانات فى الخارج.
بعد انتهاء العرض الفنى يعود السائحون إلى الباخرة للمبيت بها، قبل أن تبحر فى الخامسة من فجر اليوم الثامن فى الطريق لسوهاج، ثم تتوقف عند كوبرى نجع حمادى حوالى التاسعة صباحاً فى انتظار فتحه لتتمكن من المرور، يتابع رجال الشرطة الباخرة من الكورنيش فيسيرون بمحاذاتها وهم مدججون بالسلاح، فيما يقف رجال الشرطة الموجودون على ظهر المركب إلى جوار الجرينوف المثبت فى مؤخرة الباخرة على أتم استعداد لاستخدامه فى أى لحظة.
ينفتح الكوبرى فى الحادية عشرة والنصف، فتمر الباخرة وسط صيحات الأهالى الذين يتجمعون لرؤية مشهد عبور الباخرة، وتتوقف مرة أخرى أمام كوبرى ثانٍ يقول ريّس المركب إن اسمه «أبو حمار»، ينفتح بسرعة هذه المرة وتواصل الباخرة سيرها، قبل أن تتوقف للمرة الثالثة أمام قناطر نجع حمادى فى انتظار فتح البوابة، تحتك الباخرة بأحد جانبى المدخل الذى تحفه قطع خشبية مستطيلة، فتنخلع قطعة خشب من مكانها، ويرفض موظفو البوابة السماح للمركب بالعبور دون تغريمها بسبب «إتلاف ممتلكات عامة للدولة»، وبعد أكثر من ساعة ونصف الساعة، تفتح البوابة لعبور الباخرة بعد دفع قيمة الغرامة التى حددها الموظفون.
حوالى الثامنة والنصف مساءً تصل الباخرة سوهاج، يستقبلها عدد من رجال الشرطة عند مرسى نادى الضباط، يبذل ريّس المركب جهداً كبيراً فى الوصول للمرسى بسبب انقطاع النور عن المحافظة، يرسو بنجاح فى النهاية، ويقضى السائحون الليل داخل الباخرة دون أن يزورهم أى مسئول من المحافظة كما حدث فى أسوان والأقصر وقنا من قبل، وفى نفس الوقت يبلَّغ ضباط الشرطة المكلفون بحراسة المركب من الخارج بحظر خروج أى سائح من الباخرة أثناء الليل، فغير مسموح لهم بالتجول فى المدينة.
فى اليوم التاسع، تتحرك الباخرة من سوهاج صباحاً لتتوجه إلى أسيوط، تصلها فى الثالثة والنصف عصراً، وترسو إلى جوار مركب سياحى كبير مؤمّن بقوات من الشرطة، وكما حدث فى سوهاج، لا يصل أى مسئول من المحافظة، فقط يتم إرسال فرقة الفنون الشعبية بقصر ثقافة أسيوط لتقدم عرضاً على سطح المركب، وتنصرف بعد ذلك، ليمضى السائحون ليلتهم داخل الباخرة دون الخروج منها إلى المدينة. وتتحرك الباخرة فى الرابعة والنصف من فجر اليوم العاشر إلى المنيا، تتوقف قليلاً حتى يتم فتح هويس أسيوط، وتعاود تحركها لتصل إلى المنيا قرابة الواحدة ظهراً.
فى المنيا يستقل السائحون الألمان أتوبيساً سياحياً لزيارة مقابر بنى حسن، ثم يعودون ليقضوا ليلتهم داخل الباخرة، قبل أن يتحركوا مرة أخرى فى السابعة من صباح اليوم الحادى عشر إلى تل العمارنة لزيارة مدينة إخناتون بمقابرها وقصرها الشمالى، ثم تونا الجبل التى تحوى مقبرة إيزا دورا والساقية والسراديب الأثرية، ويعودون أدراجهم إلى الباخرة فى نهاية رحلتهم للمنيا دون أن يصلهم أى مسئول من المحافظة. تتحرك الباخرة فى الخامسة فجر اليوم الثانى عشر، ولا تكاد تسير بضعة أمتار حتى تغرز فى طمى النيل وتعلق لأكثر من سبع ساعات متواصلة، ثم تتحرك فى الواحدة ظهراً وتصل مدينة بنى سويف فى المساء.
فى الخامسة من صباح اليوم الثالث عشر تتحرك الباخرة فى اتجاه القاهرة التى تصلها فى الثانية عشرة والنصف ظهراً، فترسو عند المعادى، ويخرج السائحون فى أتوبيس سياحى ليزوروا قلعة صلاح الدين، ثم يعودون للمبيت فى الباخرة، ويواصلون زيارات القاهرة فى اليوم الرابع عشر والأخير إلى المتحف المصرى والأهرامات الثلاثة وسقارة، قبل أن يرجعوا للباخرة التى يقضون فيها ليلتهم الأخيرة، ثم يغادرون صباح اليوم الخامس عشر إلى مطار القاهرة للعودة إلى بلادهم، تاركين خلفهم باخرة صغيرة تستعد للإبحار من مرساها بالمعادى فى رحلة العودة إلى أسوان.