تؤكد المعلومات المتوافرة أن القيادة السياسية على إدراك تام بأن سد النهضة يمثل خطراً على البلاد والعباد. والقيادة السياسية على إدراك تام بتداعيات السد الإقليمية، خاصة تشجيع بقية دول حوض النيل على إنشاء المزيد من السدود والتوسع فى مشاريع الزراعات المروية ممّا يزيد الضغوط على حصتنا المائية المحدودة. وقد تكون هناك تساؤلات لدى القيادة السياسية حول الفترة الزمنية لاستمرار الآثار السلبية لسد النهضة، هل هى مؤقتة تحدث أثناء فترة التخزين الأولى للسد، أم أنّها دائمة ومستمرة ما بقى سد النهضة؟ والحقيقة المرّة أنّ سلبيات سد النهضة على مصر دائمة وليست مؤقتة. سد النهضة وباختصار شديد سيؤدى إلى نقل مخزون السد العالى من المياه إلى الهضبة الإثيوبية، مما يعود بمصر مائياً عقوداً إلى الوراء، وتحديداً إلى فترة ما قبل بناء السد العالى، فتكون معرضة للقحط والجفاف أثناء سنوات الفيضان المنخفضة، وسنوات الجفاف تحدث بشكل عشوائى ولكنّها دائمة التكرار من فترة زمنية لأخرى، وعموماً فإنّ الخطورة الرئيسية للسدود تقاس من حجمها التخزينى، فإن كان حجم السد ضخماً كان تأثيره ضخماً على دول المصب، وسد النهضة تبلغ سعته التخزينية مرة ونصف متوسط التدفق السنوى للنيل الأزرق، ولذا فهو سد مبالغ فى ضخامته، وتأثيره بلا شك كبير على كل من مصر والسودان، ويستطيع حجب كامل مياه النيل الأزرق عن دولتى المصب لمدة ثمانية عشر شهراً متتالية، وما يلقى بالشك والريبة على هذا السد أنّ كفاءته فى توليد الكهرباء لا تتعدى 25%، مقارنة بحوالى 50-60% لمعظم السدود فى العالم، وأنّ جدواه الاقتصادية مشكوك فيها ولن تغطى إيراداته من إنتاج الكهرباء تكاليف الإنشاء والصيانة والتشغيل، ومعظم كهرباء السد ستكون للتصدير وليست للتنمية المحليّة كما تدّعى إثيوبيا، وذلك ما يجعلنا نتساءل ما الهدف الحقيقى من هذه الضخامة فى السعة وهى غير مجدية اقتصادياً أو تنموياً؟ وأول ما يتوارد إلى الذهن فى هذا الشأن أن إثيوبيا سوف تستخدم هذا السد كسلاح سياسى للضغط على مصر والسودان عند الحاجة وفى الوقت الذى تحدده وتراه.
ولكن ماذا فعلت القيادة السياسية المصرية للحيلولة دون وقوع مصر تحت هذا الابتزاز والضغط السياسى؟ لقد اختارت القيادة السياسية طريق المهادنة وحسن النية أملاً فى أداء مماثل من إثيوبيا، فوافقت على المطلب الإثيوبى بأن يكون مسار المباحثات فنياً لدراسة آثار السد على دولتى المصب، وذلك من خلال التعاقد مع مكتب استشارى دولى، والنتيجة أنه بعد مرور 42 شهراً منذ وضع حجر أساس السد، وبعد الانتهاء من بناء 50% من بنيانه، وبعد أن أصبح افتتاح المرحلة الأولى من السد بعد شهور قليلة، لم يتم حتى التعاقد مع المكتب الاستشارى الدولى الذى سيقوم بالدراسات، وللتعامل مع هذه المماطلات الإثيوبية طالبت القيادة السياسية بعقد اتفاقية مع إثيوبيا لضمان جدية التحرك، وقاد فريق التفاوض وزير الخارجية بالتعاون مع وزارة الرى وانتهوا بوثيقة تمت تسميتها بإعلان المبادئ، التى وقعها قيادات الدول الثلاث، وأهم ما جاء فى هذا الإعلان مبدأ عدم الإضرار، الذى ينص على عدم إحداث ضرر جسيم لأى دولة نتيجة بناء السد، وللأسف لم يتم الاتفاق على تعريف ما الضرر الجسيم، وما مقداره، بل أشار البيان إلى أن مرجعية حساب قيمة الضرر هى الاستخدام العادل والمنصف للمياه للدول الثلاث من نهر النيل، ولكن لم يتم الاتفاق على كمية هذه الاستخدامات لكل دولة، فأصبح من المستحيل قياس وتقييم الأضرار الناتجة عن سد النهضة، وإثيوبيا لا تعترف باستخدامات مصر والسودان الحالية من نهر النيل، وبالتالى أصبح مبدأ عدم الإضرار غير قابل للتطبيق أو القياس، ومن البنود المهمة الأخرى فى إعلان المبادئ هو البند الخاص بضرورة توافق مصر والسودان وإثيوبيا على عدد سنوات التخزين الأولى للسد، وكذلك على سياسة التشغيل أى تحديد كميات المياه المنصرفة من السد لدولتى المصب، وتم اشتراط أن يكون هذا التوافق على ضوء نتائج دراسات السد ومبدأ عدم الإضرار، والدراسات لم تبدأ بعد، ولم تتفق الدول الثلاث على الاستخدامات العادلة والمنصفة للمياه واللازمة لتحديد مقدار أضرار السد، والخلاصة أننا أصبحنا أمام طريق مغلق وبلا حراك وأصبح التحرك السريع نحو طريق آخر غير مسدود أمراً حتمياً لتجنب مخاطر السد على مصر، ولكن السؤال الذى يحير ويؤرق القيادة السياسية فى تصورى، عمّا هو الطريق الذى لا يتناقض مع التزامات الدولة السابقة.
إحدى المبادرات المحتملة ما طرحناه مسبقاً من مطالبة إثيوبيا بوقف الإنشاءات مؤقتاً بعد افتتاح المرحلة الأولى من السد وتركيب توربيناتها وتشغيلها، وذلك حتى يتم الانتهاء من الدراسات والتوافق حول نتائجها والاتفاق بين الدول الثلاث على استكمال إنشاءات السد أو استكمال جزء منها أو إيقافها عند هذا الحد، وقد ترفض إثيوبيا المبادرة بحجة أن هذه المبادرة تخالف ما جاء فى بيان مالابو وإعلان المبادئ اللذين لا ينصان على وقف إنشاءات السد أو التفاوض حول سعته التخزينية، وهناك مبادرة أخرى تعتمد على نتائج دراسات دولية لمجموعة شركات استشارية نرويجية تعمل لحساب الحكومة الإثيوبية فى تصميم سد مندايا على النيل الأزرق، الذى يقع مباشرة أعلى سد النهضة، فقد اقترحت هذه المجموعة عام 2011 ألا تزيد سعة سد النهضة على 30 - 35 مليار متر مكعب، بدلاً من 74 مليار متر المكعب السعة التصميمية الحالية، لأن هذه السعة الأصغر ستنتج ما يقترب من نفس كمية الكهرباء التى ينتجها السد الأكبر، مع توفير كم كبير من تكاليف الإنشاء والتشغيل والصيانة، وهذه السعة المتوسطة ستكون لها آثار سلبية على مصر ولكن بلا شك أقل كثيراً من تأثير السعة التصميمية الضخمة، والمبادرة المقترحة هنا هى إيقاف إنشاءات السد عند هذه السعة حتى الانتهاء من الدراسات والتوافق حولها، وإذا ثبت أن هناك ضرراً جسيماً سيقع على مصر والسودان نتوقف عند هذا الحد، وإذا لم يثبت الضرر تستكمل إثيوبيا البناء، وقد تعترض إثيوبيا أيضاً على هذه المبادرة بحجة أن إعلان المبادئ لا ينص على أن سعة السد التخزينية أحد المتغيرات القابلة للتفاوض، وأن التفاوض محصور فقط فى سنوات التخزين وسياسة التشغيل، طيب معلش هناك مبادرة ثالثة تتوافق مع ما جاء فى إعلان المبادئ، وتعتمد على نتائج الدراسة المصرية التى أعدها خبير أمريكى عام 2013، وتوضح هذه الدراسة أن إطالة فترة التخزين الأولى للسد لن تمنع حدوث أضرار على مصر، ولكن سوف تقلل هذه الأضرار بشكل محسوس، خاصة إذا ما تم التخزين على فترة 15-20 عاماً، بمعنى آخر ألا يتم حجز أكثر من 5 مليارات متر مكعب سنوياً أمام سد النهضة، والسبب أن هذه الفترة الطويلة التى تمتد 15-20 عاماً ستشمل فترات جفاف وأخرى فيضانات عالية مما يمكن السد العالى من استعادة حوالى 70% من مخزونه المائى، مما يمكن مصر من استيعاب قدر لا بأس به من أضرار السد، وملخص المبادرة أن يتم عقد اتفاق سياسى بين قيادات الدول الثلاث بعدم حجز كميات مياه تزيد على 5 مليارات متر مكعب سنوياً حتى يتم الانتهاء من دراسات السد والتوافق حول نتائجها، فإذا ثبتت صحة هذه التقديرات يتم الاستمرار على هذا المنوال وإن أثبتت الدراسات عكس ذلك فيتم الالتزام بنتائجها، وتنفيذ هذا الاتفاق السياسى قد يتطلب وقف إنشاءات السد لعدة سنوات بعد الانتهاء من كل مرحلة من مراحله الإنشائية، أو إعادة النظر فى معدلات الإنشاءات، وبما يتناسب مع كميات الحجز السنوى المتفق عليه، وهناك العديد من الأفكار الأخرى التى يطلق عليها أنها من خارج الصندوق، ولكن الأهم هو توافر الإرادة السياسية للخروج من هذه الأزمة الخانقة.