فى منتصف الثمانينات الفائتة، عاد قريب لى من إحدى الدول الخليجية بعد رحلة عمل طويلة ومثمرة، استطاع خلالها أن يكون ثروة أحضر هذا القريب معه سيارة فارهة من طراز رفيع، واضطر إلى أن يدفع مبالغ كبيرة كضرائب وجمارك لترخيصها فى مصر.
ولقد فوجئنا جميعاً بأن هذا القريب استأنف حياته فى بلده دون أى تخطيط أو نية ليبدأ عملاً جديداً، أو ينشئ مشروعاً تجارياً؛ إذ اكتفى فقط بالقيام بمهمتين أساسيتين لا ثالث لهما، أولاهما رعاية العائلة، وثانيتهما «تصليح السيارة» التى لم يمر عليها أسبوع واحد دون مشكلة أو خلل أو أزمة تسببها له ولأسرته على أحد الطرق السريعة أو فى شوارع العاصمة المزدحمة.
لم يتوقف الأقارب والأصدقاء عن إسداء النصح لهذا الشخص بضرورة شراء سيارة جديدة والتخلى عن هذه الكارثة المتنقلة التى أصابت حياته بالكرب والخلل وعوقته عن القيام بمهامه أو التمتع بإجازته الطويلة، لكنه لم يتخل عن تلك السيارة أبداً.
وقد احتجنا إلى وقت طويل لندرك أنه لم يكن يريد سيارة تسهل له أموره، ولم يكن راغباً فى التخلص من الأزمات وتضييع الوقت وإهدار المال، بقدر ما كان راغباً فى أن يجد شيئاً يشغله، ويملأ عليه حياته، ويشعره بأن ثمة تحديات يجب أن يواجهها، وقد وجد كل هذا فى السيارة المعطوبة التى لا ينصلح حالها أبداً، وفى شكواه المريرة المتكررة من المقالب التى يتعرض لها بسببها.
يبدو أن بعضنا يصطنع مشكلات لنفسه أحياناً، أو يترك المشكلات القائمة تتفاقم، ويكتفى بالشكوى ولعن الحظوظ السيئة، وكأنه أمام معضلة لا يمكن أبداً حلها أو التعامل معها، بينما الحل سهل ومتاح ومجرب، تذكرت تلك الواقعة حينما استمعت إلى خطاب الرئيس الأخير الذى وجه خلاله انتقاداً للإعلام وبعض الإعلاميين، وعلى الفور برز السؤال على لسانى: هل تريد الدولة فعلاً إصلاح الإعلام؟ سأكرر ما فعلته مراراً مع قريبى صاحب السيارة المعطوبة، بأن أحاول تقديم المشورة.
فى حال كانت الدولة تريد فعلاً إصلاح الإعلام، فالحل ليس بترك الأوضاع على ما هى عليه والاستمرار فى الشكوى وتوجيه الانتقادات والتحذير من الكوارث، هناك ثلاث آليات أساسية تواجه بها الدولة الانفلاتات وأنماط الأداء الحادة فى أى منظومة إعلامية، وعلى الرئيس أن يسهر على وجودها وأن يضمن فاعليتها، على النحو التالى:
أولاً: القانون
كان ينبغى على الدولة أن تضمن تفعيل القوانين القائمة ذات الصلة بالجانب الإعلامى، ومنها مثلاً ما يتصل بـ«انتهاك حرمة الحياة الخاصة»، و«السب والقذف»، و«التحريض على العنف»، وغيرها، لكن الدولة للأسف لم تفعل ذلك، وتركت الأعراض والوحدة الوطنية والسلام المجتمعى دون أى حماية أمام سيل من الانتهاكات التى قام بها إعلاميون موالون.
ثانياً: الهيئات الضابطة
أى الهيئات المستقلة، ذات الطبيعة الفنية التى تسهر على متابعة الأداء الإعلامى وتقييمه وضمان احترامه للمعايير. ولدينا هيئة منصوص عليها فى المادة 211 من الدستور، لكن الاستحقاقات الدستورية لم تجد طريقها للتفعيل من جانب سلطة التشريع، لدينا إطار دستورى جيد لتنظيم الإعلام، كان على الدولة أن تعمل على ترجمته فى تشريعات، وهو أمر لم يحدث حتى اللحظة الراهنة، رغم امتلاك الرئيس سلطة التشريع على مدى الشهور الـ16 الماضية.
ثالثاً: التنظيم الذاتى
التنظيم الذاتى يمثل الجهود التى تقوم بها الجماعة المهنية نفسها لتقييم أدائها، وإصدار مواثيق الشرف الخاصة بها، ومحاسبة أعضائها المتجاوزين، وترقية أدائهم، لا يمكن للتنظيم الذاتى أن يتم دون نقابة مهنية كما ينص الدستور. ورغم أن مشروع النقابة جاهز، لكن السلطة التى تمتلك صلاحية التشريع لم تصدر قراراً بقانون لإنشاء مثل تلك النقابة.
تلك الآليات جميعها يمكن للدولة أن تُفعلّها إذا أرادت، وهى مُجربة وناجعة وقادرة، مع جملة آليات مجتمعية ومهنية أخرى، على ترقية الأداء الإعلامى.
فهل نريد فعلاً إصلاح الإعلام؟