حكايات «المجاعة» فى زمن الحكم السودانى
حكايات «المجاعة» فى زمن الحكم السودانى
مدينة «أبورماد» بحلايب
أخذ الشيخ محمد طاهر السدو، يعمد بظهره على «العنجريب»، أمام منزله بقرية أبورماد، يتابع من خلف عدسات نظارته الطبية المتوافدين إلى لجان الانتخابات فى أول تصويت على مقعد منفصل لمثلث حلايب وشلاتين، خطوة يعتبرها الرجل غير مسبوقة فى تاريخ المكان الذى ولد وعاش فيه طيلة حياته، ويحفظ تاريخه جيداً عن ظهر قلب، وكان شاهداً على الوجود السودانى فى المنطقة قبل إعادة المنطقة للدولة المصرية فى مطلع التسعينات.
مشايخ القبائل لم يتحملوا تخلى الإدارة السودانية.. وأرسلوا لـ«مبارك» خطاباً: «شعبك يموت من الجوع»
بجسده النحيل، وبشاشة وجه، أخذ يسرد السدو لـ«الوطن»، حكايات المجاعة التى ضربت المنطقة خلال الإدارة السودانية لها، فى السنوات الأخيرة قبل رحيل الجيش السودانى، حتى وصل بهم الأمر لدفن الكثير من أبنائهم بعدما ماتوا جوعاً.
تغير لون وجه العجوز حين تذكر مشاهد المجاعة، ساد الوجوم، وبعينين صاغرتين، يقول: «المشاهد مؤلمة، لم يكن الرجل يجد العيش الحاف ليطعم أطفاله بعدما حل الفقر على الصحراء وانقطع المطر»، ولم ينس السدو مشهد منظمات الإغاثة التى حلت على البلد لأول مرة، ومعها المحاليل، والإعانات، تخلط الزيت بالدقيق، وتدفس بداخلها الأدوية والمقويات والفيتامينات. ويقول: «وقتها حاول مشايخ القبائل من العبابدة والبشارية الاستغاثة بالإدارة السودانية، التى لم تكن ترى ولا تسمع ألم الناس هنا»، وأعادوا الكرة مرة وأخرى ولكن لا مجيب، بل وما زاد الأمر سوءاً أن أحد قيادات حزب المؤتمر الوطنى، كان غليظاً فى الرد على أحد المشايخ: «مش ناقصين كمان دول لا إحنا عارفينهم مصريين من سودانيين أصلاً».
التشكيك فى وطنية أبناء المثلث التى خرجت عن الإدارة السودانية، لم يتحمله مشايخ القبائل، حسب رواية السدو، وجدوا فيه تخلياً من الإدارة السودانية عن المثلث، ولم يجد حينها إلا حلاً واحداً، حيث أرسل خطاباً للرئيس الأسبق حسنى مبارك قال فيها: «أنقذ شعبك.. يموت من الجوع»، ولم يكمل أكثر من ذلك.
خرجت مظاهرة فى عام 1994 من إخوان السودان من أعضاء حزب المؤتمر الوطنى، للتنديد بإعادة مصر حلايب لإدارتها، وقاموا بالحشد تجاه معبر حدربة، وهتفوا ضد الجيش المصرى وضد ما سموه حصار حلايب، حينها خرج عليهم السدو والمشايخ من بوابة حدربة تجاه المظاهرة للرد عليهم قائلاً: «ديه وقيعة بين السودان ومصر.. ومحدش هيخش بوابة حلايب إلا بإذن من الجيش المصرى ديه أرض مصرية»، ويقول إن الهدف من المظاهرة كان حسب إعلانهم كسر الحصار المفروض عليهم: «قلت لهم إحنا ولادنا بيلعبوا بحبات البطاطس، مصر أنقذتنا من المجاعة».
فى السوق الدولية لمدينة الشلاتين، يستقر «حامد على»، على أريكة خشبية يحتسى كوباً من الجبنة، ويتذكر مع توافد المصوتين على اللجان، آخر انتخابات جرت فى المثلث خلال الإدارة السودانية، ويقول وقتها لم يكن أحد يشارك كالعدد الذى شارك فى الانتخابات الحالية.
على كرار، من أبناء قبائل البشارية، يتذكر بدقة خطوات الجيش المصرى بعد استعادة حلايب، ويقول إن المنطقة كانت تضج بعمليات تهريب السلاح والمخدرات خلال الفترة الأخيرة من عمر الإدارة السودانية، وإن الجيش حاول إحكام قبضته الأمنية أولاً ثم بدأ فيما عُرف بمرحلة «التمصير».
مرحلة التمصير، حسب «كرار»، كانت تقوم على تعليم أبناء قبائل البشارية اللغة العربية، حيث إنهم كانوا لا يتحدثون إلا اللغة البجاوية وهى اللغة المحلية فى المثلث، التى يعتز بها أهالى المثلث ويحتفظون بها فى صدورهم، ولكن بدأ فى ترغيب الناس فى التعليم وصرف المعونات، وأخذ فى صرف 5 جنيهات لكل طالب يلتحق بالمدرسة، وهى ما مثلت مصدر دخل للكثير من العائلات.
شرع «الجيش المصرى» وقتها فى بناء مؤسسات الدولة من مدارس، ووحدات صحية وغيرها من بنية تحتية، ويقول «كرار» إن وقتها إخوان السودان من أعضاء حزب المؤتمر حاولوا بشدة الوقيعة بين الجيش المصرى وأهل المنطقة من خلال إثارة المشاكل والقلاقل، ولكن كان لمشايخ القبائل موقف قوى من خلال الذهاب إلى مجلس الشعب المصرى آن ذاك وإعلان مصريتهم على الملأ.
أهالى قرية «أبورماد» يضعون صورة مبارك فى منازلهم