بين الحين والآخر يخرج علينا أحد الكُتّاب السعوديين بمقال يصب فيه جام غضبه على مصر معتبراً أنها لم ترد الجميل الذى أقدمت عليه المملكة بسخاء بعد ما يسمونه «انقلاب يونيو»، وأنها تلعب دوراً مزدوجاً، إذ تقول كلاماً معسولاً للخليج لكنها تفعل عكسه، ولا تريد أن تعترف بأنها فقدت مقومات القيادة فى كل المجالات، وأن هناك دولة عربية أخرى هى التى تقود المنطقة ولكن مصر ما زالت تمانع، ووصل الحد بأحد هؤلاء الكُتّاب المعروف عنهم صلاته ببعض الأمراء النافذين إلى التلميح بأن مصر أنفقت المليارات من الدولارات لكى تعطل القيادة السعودية للمنطقة العربية. وعلى حد علمى وعلم كل مصرى أن مصر تجاهد من أجل إنفاق الملايين الشحيحة التى تأتى عنوة فى مشروعات تنموية تفيد المصريين ولا تنفق مليماً واحداً على مغامرات خارجية من أى نوع كما تفعل ذلك دول أخرى معروفة بالاسم للعالم كله. وفى كثير مما يقوله هؤلاء نوع من خلط السم بالعسل، فمصر الآن فى عيونهم وقلوبهم مجرد بلد واقع تحت سلطة انقلاب، وأن النظام الجديد يعادى الإخوان هكذا لوجه الله ويقمعهم دون سبب، وهم إجمالاً يغمضون العين ويصمون الأذن لما يحدث من انتخابات ودستور وبرلمان على الأبواب، بل يعتبرونه تمثيلية سياسية لاستكمال مقومات الانقلاب.
لن أشير إلى هؤلاء الكُتّاب بالاسم ولكنهم معروفون لكل من يتابع الصحف اليومية الصادرة فى لندن، وتتبع شركات سعودية، ومع أنه لا يوجد دليل مادى ملموس على أن هؤلاء الكُتّاب يعكسون توجهات داخل المراكز العليا للقيادة السعودية، أو أنهم يكتبون بتوجيهات لغرض توصيل رسائل لمصر ولرئيسها تحديداً مفادها أنهم غير راضين عن تحركات مصر فى بعض الملفات التى تعتبر ذات أولوية قصوى للمملكة السعودية، لا سيما الملفيْن السورى واليمنى، فمن الصعب تجاهل مثل هذه الآراء المُجافية للحقيقة واعتبارها كأن لم تكن أو أنها مجرد شطحة كاتب سعودى يرى الأمور بمنظور إخوانى قطرى تركى معادٍ لتطلعات المصريين جميعاً. وأياً كان الأمر فليس أمامنا سوى رفض ما يقوله هؤلاء. فالذين يدعون مصر إلى الانضواء إلى تحالف سنُى يضم السعودية وقطر وتركيا لمواجهة خطر إيرانى يعرفون جيداً أن مصر لا تنضوى أبداً تحت مظلة طائفية أو مذهبية من أى نوع، فهى أكبر من ذلك. وإذا كان هدف هذا التحالف هو محاصرة النفوذ الإيرانى وتدخلات طهران فى الشئون الخليجية فإن مصر مواقفها واضحة فى هذا الصدد قولاً وفعلاً، وهى البلد الوحيد الذى لا يتعامل مع إيران منذ أربعة عقود وذلك على عكس التعاملات الشاملة لدول التحالف الثلاث مع طهران دبلوماسياً وتجارياً واقتصادياً وسياحياً.
وإذا كان بعض هؤلاء ينتقدون مصر لأنها تطور علاقاتها بالدب الروسى، فهم أيضاً يفعلون الشىء نفسه وأكثر، فهناك حوار متكرر بين المسئولين السعوديين ونظرائهم الروس، وهناك صفقات بالمليارات فى السلاح وغيره، وهناك علاقات تجارية واقتصادية هائلة بين تركيا وروسيا تفوق 40 مليار دولار ولم يطالب أى من هؤلاء الكُتّاب السعوديين أنقرة أن تقطع هذه العلاقات للتعبير عن رفض التدخل الروسى العسكرى فى سوريا. وهو موقف يدل على النفاق السياسى والمكر وإنكار الحقائق ومحاولة تحميل مصر مسئولية تعثر الدور القيادى الذى يبشرون به.
وإذا كانت هذه البلدان ترى فى الإخوان حليفاً طبيعياً لهم، فهذا حقهم ومصالحهم، ولكننا نُذكرهم بأن الرياض فى زمن الملك عبدالله، رحمة الله عليه، أصدرت قائمة بالمنظمات الإرهابية وكان من بينها جماعة الإخوان، تماماً كما فعلت دولة الإمارات الشقيقة، ولذا لنا أن نتعجب من طمس الحقائق الدامغة، ونتوجه لهؤلاء الناصحين لنا بالسؤال: لماذا لم تطالبوا الإمارات بأن تتصالح مع الإخوان وهى لم تشهد منهم حجم الأذى والعنف والإرهاب الذى شهده المصريون من هذه الجماعة الإرهابية التى تُكفّر من يخالفها وترى نفسها أعلى شأناً من الوطن كله؟ ولماذا تريدون من مصر أن تتراجع فى الوقت الذى تستمر فيه مكائد الإخوان المدعومين من قطر وتركيا؟
نعرف أن هناك مشروعاً استراتيجياً تم استثمار الكثير فيه أموالاً ودعاية وتسليحاً لجماعة الإخوان فى سوريا وأعوانها من القاعدة، ولكنه لم يَفلح فى هز عرش الرئيس بشار الأسد، بل وصل هذا المشروع إلى نهايته المحتومة، أى الفشل الذريع، وهو فشل لا علاقة لمصر به، وإنما طبيعة المشروع نفسه هى التى انتهت به إلى هذا المصير المتوقع منذ زمن، وبالتالى فإن محاولة إلقاء اللوم على مصر تبدو عبثية إلى أبعد مدى، وتدل على عُقم التفكير السياسى الرصين. وبدلاً من أن يراجع هؤلاء الكُتّاب الأسباب البنيوية لفشل مشروع الإخوان فى سوريا رغم كل المليارات والمناورات والأسلحة والأفراد والدعاية السخية، ومن قبل فى مصر وتونس وغيرهما من البلدان العربية، ويعترفوا بالخطأ الجسيم، فإنهم يريدون أن يغسلوا أيديهم مرددين أن مصر لم ترد الجميل. وكأن على المصريين لكى ينجح الآخرون أن يتنازلوا عن هويتهم وأمنهم وتاريخهم ويقدموا كل ذلك قرباناً من أجل تدشين قيادة إقليمية لهذا الطرف أو ذاك.
والغريب فى الأمر أن يتصور أحد أن القيادة فى النطاق الإقليمى هى أمر يُطلب أو يُفرض بالوصاية، أو أن مجرد التدخل فى شأن الآخرين يعنى بأن تلك قيادة إقليمية، وأن صرف عدة مليارات لشراء مجموعات مسلحة لهدم نظام فى بلد آخر يؤكد تلك القيادة. كل ذلك قد يسبب توتراً ويثير المشكلات ولكنه لا يصنع القيادة الإقليمية، التى ترتبط أولاً وأخيراً بالنموذج الحضارى والإنسانى والسياسى الجاذب الذى يقدمه البلد لنفسه وللعالم كله. ولا ينكر أحد أن لدى مصر مشكلات عويصة تحول دون تقديم هذا النموذج الجاذب الآن، ولكنها تجتهد فى ظل ظروف معقدة لكى تطور من داخلها النموذج الذى يرتضيه المصريون أولا وأخيراً دون وصاية أو تدخل أو توجيه خارجى. ويعرف هؤلاء الكُتّاب السعوديون قبل غيرهم أن تراجع النموذج التركى الذى تم التبشير به قبل عقد من الزمن ناتج أساساً من هوس القيادة الأردوغانية بالتسلط على شعبه وعلى شعوب المنطقة حوله، وأنه الآن فقد بريقه حتى بين الأتراك أنفسهم. وإذا كان على أحد آخر فى المنطقة أن يتقدم للقيادة الإقليمية فليُظهر لنا نموذجه الحضارى والإنسانى والسياسى قبل أى شىء آخر.