وحدة مصر والسودان كانت قائمة لعقود عديدة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وبدأت هذه الوحدة مع قيام محمد على عام 1820 بالزحف جنوباً إلى السودان وتأسيس مدينة الخرطوم عام 1821، وأخضع جنوب السودان وأجزاء كبيرة من أوغندا وضمها للدولة السودانية. وقام خلفاء محمد على بعد ذلك بتوحيد شرق وغرب وشمال وجنوب ووسط السودان فى دولة واحدة هى السودان الشقيق. ومصر كان لها رئيسان من أُم سودانية محمد نجيب وأنور السادات. وبعد استقلال السودان عن مصر عام 1956 شهدت العلاقات المصرية - السودانية تذبذبات ما بين الصعود تارة والهبوط تارة أخرى. فقد كانت العلاقات جيدة أثناء فترة حكم الفريق عبود وبعدها أثناء حكم الصادق المهدى الذى استمر حتى 1969، والذى أطاح به انقلاب عسكرى تولى على أثره «النميرى» مقاليد البلاد، الذى فى عهده بلغت العلاقات المصرية - السودانية أقصاها، وتم توقيع ميثاق التكامل بين البلدين. وفى عام 1985 قامت ثورة شعبية وتولى سوار الذهب الحكم وأجرى انتخابات عام 1986 ورجع الصادق المهدى مرة ثانية إلى الحكم واستمر 3 سنوات إلى أن أطاح به انقلاب عسكرى عام 1989 بقيادة جبهة الإنقاذ وتولى «البشير» مقاليد الحكم وتولى «الترابى» رئاسة البرلمان. وبدأت العلاقات المصرية - السودانية تهتز بشدة، وكان السودان يؤوى بعض الجماعات الإسلامية المناهضة للنظام المصرى، وقامت بعض هذه الجماعات بمحاولة اغتيال مبارك فى أديس أبابا عام 1995. ثمّ بدأت العلاقات تتحسن نسبياً بعد عزل الترابى عام 1997. وبعد وصول الإخوان إلى السلطة فى مصر، كان النظام السودانى يأمل فى الحصول على دعم مصرى قوى يواجه به التحديات الداخلية والخارجية التى تحيط به، ولكن لم يتحقق ذلك مع سوء أداء حكم الإخوان داخلياً وخارجياً وتراجع محمد مرسى عن أى اتفاقات (غير معلنة) مع السودان بخصوص حلايب.
وبعد ثورة يونيو المصرية كان هناك تحول لتوجهات القيادة السياسية فى السودان من حليف تاريخى لمصر فى ملف حوض النيل إلى داعم لإثيوبيا فى أزمة سد النهضة. وقد صرح الرئيس البشير فى ديسمبر 2013 فى حفل تدشين الربط الكهربائى بين السودان وإثيوبيا فى ولاية القضارف السودانية قائلاً: «ساندنا سد النهضة لقناعة راسخة بأنّ فيه فائدة لكل الإقليم بما فيه مصر، ولأنّ السودان ستحظى بنصيب كبير من الكهرباء التى سينتجها السد». وأضاف قائلاً: «السودان جزء من منطقة الحبشة الكبرى، التى كانت تضم الصومال وجيبوتى وإريتريا وإثيوبيا، لكن الحدود التى وضعها المستعمر هى التى فرقتنا». وصرح الرئيس البشير منذ أيام قليلة ماضية فى حواره مع محطة «سكاى نيوز» الإماراتية بأنّ سد النهضة أصبح حقيقة واقعة، وأنّ ضرر السد فقط يقع أثناء سنوات التخزين، والحقيقة أنّ الضرر دائم ويعلم ذلك علماء ومهندسو السودان، لأن سد النهضة سينقل مخزون السد العالى من بحيرة ناصر إلى الهضبة الإثيوبية وستعود مصر ومعها السودان إلى زمن المجاعات والعطش فى سنوات الجفاف كما كانا قبل بناء السد العالى. وقد صرح الرئيس البشير فى حواره بأنّه يرى أنّ الأهم فى أزمة سد النهضة هو تأمين سلامة السد الإنشائية، لأن انهياره سيكون كارثة على السودان ومصر. غريبة جداً، فلماذا إذن تنازلت السودان وكذلك مصر عن شرط إسناد الدراسات الإنشائية إلى مكتب استشارى دولى كما أوصت اللجنة الثلاثية الدولية فى تقريرها النهائى فى مايو 2013، والذى ذكر أنّ الدراسات الإثيوبية غير مكتملة ولا تأخذ فى الاعتبار احتمالات انزلاق السد وانهياره. ولماذا وافقت مصر والسودان على أن ينص إعلان المبادئ فى مارس 2014 على أن تقوم إثيوبيا بنفسها باستكمال دراسات أمان السد بنفسها؟ ولماذا وجّهت السودان ومصر لإثيوبيا الشكر على جهودها فى تنفيذ توصيات اللجنة الثلاثى الدولية الخاصة بأمان السد؟ يا مثبت العقول يا رب!!
هذا التحول النسبى لتوجهات القيادة السياسية السودانية قابله غض طرف من مصر وعدم المكاشفة وحل المشكلات مع السودان فى مهدها. ومن المعروف أنّ السودان تتفادى أى خلافات مع إثيوبيا لأنّها الطرف الفاعل حالياً فى شرق أفريقيا وتحظى بتأييد غربى كبير فى الوقت الذى غابت فيه مصر عن الساحة فى السنوات القليلة الماضية. والسودان تعانى من مشكلات مع الجنوب والنزاع فى منطقة أبيى، ومشكلات المتمردين فى جنوب الكردفان والنيل الأزرق ودارفور. وهناك فوائد للسودان من سد النهضة الإثيوبى منها تقليل المواد الرسوبية فى سدودها وتقليل تكاليف صيانتها، والحصول على جزء من كهرباء سد النهضة بأسعار منخفضة، وتوسعات زراعية نتيجة لتنظيم تصرفات النيل الأزرق على مدار العام. ولكن هناك آثاراً سلبية تتمثل فى تقليل مخزون وعمق المياه الجوفية فى منطقة النيل الأزرق، وانخفاض منسوب المياه فى النيل الأزرق ممّا يتطلب رفع مياهه بالطلمبات، وتأثر خصوبة الأراضى الزراعية نتيجة لنقص كميات الطمى مما يتطلب استخدام الأسمدة الكيماوية، بالإضافة إلى مخاطر انهيار السد التدميرية.
وتنص اتفاقية 1959 بين مصر والسودان على ضرورة اتفاق البلدين على رأى موحد بشأن قضايا مياه النيل، وأنّه فى حالة مطالبة أى من دول حوض النيل بنصيب من المياه ووافقت الدولتان على ذلك، فيتم خصم هذه الكمية مناصفة بين الدولتين. وما يحدث حالياً من خلاف فى الرأى والتوجه نحو قضية سد النهضة يخالف ما جاء فى اتفاقية 1959 بين البلدين. هو فين الهيئة الفنية المشتركة لمياه النيل التى تجتمع مرتين كل عام برئاسة وزراء الرى، وإيه فائدتها إذا لم تتطرق إلى قضية سد النهضة والتوافق حول رأى موحد للبلدين؟ هل هذا إهمال أم جهل أم هناك طرف يتعمد عدم التوافق والتهرب من الالتزامات عليه؟ فهمونا حقيقة الخيبة اللّى إحنا فيها. وهناك عدم اهتمام السودان بالعجز المائى الذى سيحدثه سد النهضة فى إيراد النهر، مما يعطى انطباعاً بأنّ السودان لن تلتزم بتحمل نصف هذا العجز كما تنص اتفاقية 1959. وهذا الانطباع تعضده تصريحات السودان بأنّها لم تستخدم كامل حصتها لسنوات طويلة، وأن هذه الكميات تقدر بعشرات مليارات الأمتار المكعبة كسلفة لمصر لحين الحاجة إليها، وطبعاً الحاجة سوف تظهر أوقات العجز فى إيراد النهر. من الواضح أنّ هناك مشكلات سوف تظهر قريباً بين البلدين بخصوص سد النهضة، وبذلك تكون إثيوبيا قد نجحت فى تصدير الصراع الناتج عن السد إلى الشريكين التاريخيين. إنّ العلاقات بين مصر والسودان استراتيجية، والأمن القومى السودانى جزء من الأمن القومى المصرى، والعلاقة بين الشعبين أزلية، ويجب ألا تتعرض هذه العلاقات لمثل هذه الاهتزازات العنيفة. هناك أولوية قصوى لوقفة جادة وحوار موسع لتصحيح مسار العلاقات، لأنّ موقع السودان الطبيعى بالنسبة لمصر هو شقيق وشريك استراتيجى دائماً وأبداً.