فى فترات الأزمات يطلُّون بوجوههم الكالحة، يطلقون ألسنتهم، ويخطُّون كلماتهم بأقلام مسمومة، يعيدون إنتاج خطابهم، يراهنون على أوجاع الناس، يدقُّون عليها بعنف، يحرّضون بكل قوة، ويسعون إلى شحن الجماهير فى مواجهة الوطن!!
منذ خمس سنوات مضت، نفس الأشخاص لم يكونوا يريدون إصلاحاً، ولا حتى تغييراً للنظام، بل إسقاط الدولة، رفعوا الشعارات، دفعوا الجماهير إلى الشارع، هتفوا «يسقط الفساد والاستبداد»، هتفت وراءهم الملايين، كلنا كنا نعانى، نتألم، ضاق بنا الحال أمام نظام عنيد لا يبالى، ولكن من قال إننا كنا نسعى إلى إسقاط الدولة ومؤسساتها الواحدة تلو الأخرى؟.. استخدموا وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعى المختلفة، وظّفوا الشعارات جيداً، كان الناس يبحثون عن الخلاص بأى ثمن، احتشدوا فى الشوارع والميادين، كانت «ثورة» فى عقول أصحابها من المخلصين والمكلومين، لكن هؤلاء الذين دُرِّبوا فى الخارج، وأصحابهم من «إخوان» الداخل كانوا للدولة بالمرصاد.
بين يوم وليلة استباحوا المحرمات، أحرقوا المؤسسات، وأسقطوا الشرطة، وهمُّوا بإعداد خطة لجرجرة الجيش المصرى إلى ساحة الصدام، استخدموا كل الأدوات والآليات، لكنهم فشلوا بفعل حكمة القادة العسكريين وقراءتهم للصورة جيداً.
سبعة عشر شهراً هى عمر المرحلة الانتقالية ما بين مرحلة الخامس والعشرين من يناير 2011، والثلاثين من يونيو 2012، أمسك فيها الجيش بكيان الدولة وثوابت الوطن بكل ما يملك من قوة وجسارة، فوّت عليهم الفرصة، رغم الرزالات والتطاولات.
لقد أنتج «الإخوان» شعار «يسقط حكم العسكر» منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام «مبارك». كان الهدف أكبر من إسقاط نظام، وكان الخونة والتابعون يشككون فى كل شىء، انتقل الشعار من الشارع إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل، رأينا إعلامياً يلقن أطفالاً على شاشة التلفاز «قول ورايا: يسقط حكم العسكر» ورأينا خائناً آخر يتعمّد تصوير حفل عيد ميلاد نجله وأمامه «تورتة» كُتب عليها «يسقط حكم العسكر»!!
لم يكونوا أصحاب رأى أبداً، بل كانوا مجرد أدوات فى أيدى قوى متآمرة، لا تريد خيراً لهذا الوطن، لم يكن هناك حكم ولم يكن هناك «عسكر»، كانت هناك فترة انتقالية هدفها إدارة البلاد لحين إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ثم تسليم السلطة إلى رئيس منتخب.. لكن هؤلاء سعوا إلى التشكيك، كان خطابهم يعجُّ بالأكاذيب، لقد قالوا إن الجيش يسعى إلى السلطة، وإن المشير يريد أن يكون رئيساً، وإن النظام لم يسقط، ولن يسقط إلا بسقوط «حكم العسكر».
ويوم أن كشفت د. فايزة أبوالنجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولى، فى ذلك الوقت أن فاتورة الفوضى فى مصر بلغت «ملياراً ومائتى مليون جنيه» قُدمت من دول أجنبية لمنظمات المجتمع المدنى. لم يصدّق الناس ما سمعوه، كان الكلام صادماً، ولكن رويداً رويداً، ثبت صحة كل كلمة تفوهت بها، هذه السيدة العظيمة التى تصدّت بكل جسارة للمتآمرين على الوطن وعلى مؤسسات الدولة المصرية.
فى هذا الوقت تعرفت على الكثير من الحقائق عبر لقاءات متعددة مع الدكتورة فايزة أبوالنجا التى كان يقول عنها المشير طنطاوى «إنها سيدة بألف رجل»، مئات الملايين تدفقت إلى جيوب هؤلاء الخونة والعملاء الذين تعددت أقنعتهم، حوت القائمة أسماء نواب فى البرلمان، وقادة سياسيين، ونشطاء، وحزبيين، وشخصيات عامة.
لقد كانت السفيرة الأمريكية فى القاهرة «آن باترسون» الأكثر صراحة عندما تحدثت فى شهر مايو 2011، عن عشرات الملايين من الدولارات التى قُدمت لهؤلاء النشطاء فى الفترة من فبراير إلى مايو 2011.
كان المجلس العسكرى يعرف التفاصيل، لكنه لم يسعَ إلى المواجهة المباشرة، إلا أنه طلب من الحكومة تشكيل لجنة لتقصى الحقائق، فكانت هذه «الأرقام» المروعة للمال السياسى «الأجنبى» الذى شكل وقوداً لمليونيات الفوضى التى رفعت شعار «يسقط حكم العسكر».
منذ ذلك الوقت دخلت «الثعابين» إلى جحورها، لم تجرؤ على الظهور علانية مرة أخرى، بعضهم تلوّن كالحرباء، منهم من راح يُبدى الندم، ويذرف الدموع، ويؤكد التوبة والعودة إلى الصواب من جديد، ومنهم من قال «إنه تعرّض للخديعة» ومنهم من زعم «أن الصورة لم تكن واضحة أمامه» وقس على ذلك كثيراً.
وعندما جاء زمن الإخوان احتشدت «زمرة» خلف مرسى فى «الفيرمونت»، بعضهم قال إنه «عصر على نفسه لمونة»، ومنهم من قال إن «انحيازه للإخوان كان هدفه عدم إعادة إنتاج النظام السابق»، ومنهم من قال إنه اكتشف فجأة أنه «ابن المشروع الإسلامى».
غير أن الأحداث أكدت أن هؤلاء جميعاً كانوا مجرد أدوات، وأن بداخلهم قدرة غريبة على «التبرير والكذب والادعاء»، وأن قدراتهم العقلية مشكوك فيها، وأن حسهم الوطنى يشير إلى بوصلة أخرى خارج الوطن، وأن تبريراتهم مجرد أكاذيب لم تنطل على أحد، وأن العار ظل يلاحقهم، وأن عدداً محدوداً منهم أتته الجرأة ليعلن أنه كان مخدوعاً، وأنه تاب وأناب.
بعد سقوط الإخوان تغيرت الوجوه، أحدهم أصبح رئيساً لفريق يدعو لانتخاب «السيسى» ويدعمه، وعندما انتهى موسم الانتخابات وفاز الرئيس، كان يظن أنه سيكون أحد المبشَّرين بالمواقع والمناصب، جُنّ جنونه عندما جرى استبعاده من أن يكون ضمن الفريق الرئاسى، انتظر الوزارة الجديدة، وسط الكثيرين لإقناع صنّاع القرار، لكنه صُدم أنه مستبعد، فراح يعلن الحرب ويستعين بالشيطان.
هذه الوجوه عادت الآن مجدداً بذات الأدوات القديمة، نفس الأكاذيب، نفس الشعارات، حكم «العسكر، الاختفاء القسرى، الديمقراطية الغائبة، سجن النشطاء، المطالب الفئوية»، غير أنهم نسوا أو تناسوا أن الشعب اليوم يعرف الغث من السمين، ويعرف من هو الوطنى ومن هو الخائن، ويدرك حقيقة ومرمى هذه الوجوه التى صنّفها فى خانة المعادين والمتآمرين.
الأكاذيب لم تعد تنطلى على أحد، والادعاءات ثبت زيفها. لقد أدرك الناس أن الهدف من وراء كل ذلك هو إسقاط الدولة، الهدف هو إلحاق مصر بليبيا وسوريا والعراق واليمن، وتلك هى الكارثة الكبرى التى لا يمكن أن يقبل بها أبناء البلد الحقيقيون تحت أى شعار.
الفارق بين الأمس واليوم هو الفارق بين عهد الفساد والاستبداد وعهد الطهارة والحرية. اليوم نحن أمام قائد وزعيم تم انتخابه بإرادة حرة أنقذ مصر من السقوط والانهيار، يعمل ليل نهار، لا يكل ولا يمل، يخطط للمستقبل، يريد أن يجعل من «أم الدنيا» بلداً «قد الدنيا»، الشعب أحبه، والتف حوله، ولا يزال يتمتع بثقته، ومستعد أن يصبر ويتحمل معه كل الأزمات من أجل الغد المشرق الذى ينتظره.
من هنا فإن الطريق أمام «الخونة» أصبح مسدوداً، هناك حائط صد بينهم وبين الشارع، إنه الشعب الذى سيتصدى لكل متآمر، وسيُفشل كل الخطط التى أعدوا لها وجندوا المرتزقة لأجلها، سيمضى الخامس والعشرون من يناير شأنه شأن كل الأيام الأخرى، التى توعدوا فيها الوطن، لقد اندحروا هم وبقى الوطن، وحتماً سيواجهون نفس المصير هذه المرة أيضاً!!