كانت موقعة قانون الخدمة المدنية التى شهدتها قاعة مجلس النواب وانتهت برفضه من 332 نائباً، مثالاً على ما يمكن أن يحدث فى مواقف مماثلة يتبلور فيها العناد الحكومى من ناحية، وتشرذُم الأحزاب والتيارات السياسية الممثّلة فى المجلس من ناحية أخرى، ثم وضوح ضعف تأثير ما سُمى بـ«ائتلاف دعم مصر»، وعدم قدرته على حشد أعضائه فى جميع الأحيان وبلا منازع، لتمرير أى قانون أو قرار فى المجلس، على خلاف رغبات الناخبين ذوى المصالح المناقضة لذلك القانون أو القرار! كل ذلك فضلاً عن اضطراب إدارة الجلسات!
ونبدأ اليوم بالعناد الحكومى فى مسألة رغبتها الملحة فى تمرير قانون الخدمة المدنية رقم 18 لسنة 2015، الذى صدر بقرار بقانون من رئيس الجمهورية، ودخل حيز التنفيذ من أول يوليو 2015، واستمر تطبيقه حتى مساء الأربعاء العشرين من يناير 2016، حين رفضه أغلبية النواب وتم إلغاؤه، وكانت لجنة القوى العاملة فى المجلس قد رفضته بإجماع أعضائها قبل العرض على المجلس فى حضور الوزير أشرف العربى، مهندس ذلك القانون.
واستند رافضو القانون إلى أن تطبيقه يؤثر سلباً على رواتب العاملين فى الجهاز الإدارى للدولة والمخاطبين بذلك القانون، وتعدّدت الاتهامات للقانون بأن هدفه الأساس هو خفض أعداد الموظفين فى جهاز الدولة الذى يربو على ستة ملايين ونصف المليون وخفض الرواتب أيضاً!
وكان من أسباب تزايد الغضب بين أوساط موظفى الدولة، الرفض الحاسم من جانب الحكومة لاعتراضات الموظفين واحتجاجهم المتكرر، والإصرار على تأكيد أن القانون باقٍ، ولا نية أبداً فى العدول عنه أو تعديله. ثم كان عدم وفاء الحكومة بالعهد الذى كان إبراهيم محلب، رئيس مجلس الوزراء السابق، قد قطعه على نفسه بعدم إقرار اللائحة التنفيذية للقانون، إلا بعد التشاور مع ممثلى الموظفين، والتى تم إصدارها بقرار من المهندس شريف إسماعيل رقم 2912 بتاريخ الثامن من نوفمبر 2015، دون مشاورة ممثلى الموظفين، فى ما أظن!
ولقد تجلى عناد الحكومة فى الضغط بكل الوسائل من أجل إقرار قانون الخدمة المدنية، باستخدامها -بغير أسس علمية مقننة- فكرة الحوار المجتمعى والادعاء بأن القانون قد تمت مناقشته فى جلسات مع فئات مختلفة من المتأثرين به، وأنه قد تم التوافق عليه لدرجة بعيدة. والحقيقة أن ما يُشار إليه بالحوار المجتمعى فى أدبيات الحكومة لا يعدو أن يكون لقاءات مصمّمة مع مجموعات مختارة تتم تحت إشراف وسيطرة المسئولين فى الوزارات المعنية بتمرير قانون أو لائحة أو قرار يتوقع المسئولون عدم رضا القاعدة المجتمعية عنه، تنتهى بالتوافق بين الحكومة وممثلى المجتمع الذين تم حشدهم، وهم فى الحقيقة لا يمثّلون أصحاب المصلحة الحقيقيين!
وثمة مظهر ثانٍ للعناد الحكومى فى مسألة تمرير قانون الخدمة المدنية، ذلك هو الربط بغير سند من الواقع بين القانون وبين الإصلاح الإدارى الشامل لجهاز الدولة الإدارى الذى تضخّم حجمه وقلت كفاءته وتعالت تكلفته، وصار من أهم معوقات العمل الوطنى، ومصدراً لا ينضب للفساد. ذلك أن القانون فى جملته يتناول شئون الخدمة المدنية ومحاولة تطوير قواعد التعيين فى الوظائف والعلاقات الوظيفية والطرق المختلفة لشغل الوظائف، وقواعد تحديد الأقدمية فى الوظيفة. ثم يتعرّض القانون لموضوع تقويم الأداء وقواعد التظلم من نتيجة التقويم، ويستمر القانون فى تحديد قواعد الحركة الوظيفية من ترقية، ونقل، وندب، وإعارة وحلول. وقد انشغل القانون فى مواده بتلك الأمور، فضلاً عن تنظيم الإجازات وقواعد السلوك الوظيفى والتأديب، وقواعد انتهاء الخدمة.
ومع وجود اعتراضات من قبَل موظفى الدولة على بعض من تلك الأمور التى سبق أن عالجها القانون السابق رقم 47 لسنة 1978 بقدر أو آخر من الاختلاف، سواء إلى الأحسن أو الأسوأ، لكن تركزت اعتراضات الغالبية من موظفى الدولة على مواد القانون التى عالجت موضوع الأجور والعلاوات، وقد عرض لها النواب الذين أسقطوا ذلك القانون بإسهاب. والحقيقة أن الادعاء بضرورة تمرير ذلك القانون بدعوى أنه يحقق الإصلاح الإدارى هو قول غير صحيح فى إطلاقه، فلا يعدو أن يكون هذا القانون محوراً من اثنى عشر محوراً فى خطة الإصلاح الإدارى التى أُعلنت فى سبتمبر 2014، ولم يتكامل منها سوى إصدار قانون الخدمة المدنية، أما باقى المحاور فلا تزال تراوح أماكنها، ولا تزيد فى واقع الأمر عن مجموعة من التمنيات أو فى أحسن الفروض عن اجتهادات أكاديمية، وهى الإصلاح التشريعى للجهاز الإدارى للدولة، إصلاح الهيكل التنظيمى للدولة، الإصلاح المؤسسى لوحدات الجهاز الإدارى، بناء وتنمية القدرات البشرية العاملة فى وحدات الجهاز الإدارى، إصلاح هيكل الأجور وإعادة النظر فى الدرجات الوظيفية، إصلاح نُظم تقديم الخدمات العامة والتوسّع فى استخدام تكنولوجيا المعلومات. مكافحة الفساد فى الجهاز الحكومى، التوسّع فى تطبيق اللامركزية، إصلاح الإدارة المالية للقطاع الحكومى، إصلاح منظومة إدارة وحماية الأصول الحكومية، إصلاح منظومة المتابعة والتقييم والرصد على مستوى الجهاز الحكومى. إصلاح العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة!!!
نأتى إلى السبب الحقيقى لرفض موظفى الدولة ذلك القانون، وهو تأثيره السلبى على دخولهم، وبغض النظر عن الادعاء الحكومى على غير الحقيقة بعدم تأثر دخول الخاضعين للقانون سلباً، فقد جاء فى البيان المالى لمشروع الموازنة العامة للدولة للعام 2015 - 2016 اعتراف صريح بأن الموازنة تتضمّن إجراءات هيكلية تستهدف إحكام السيطرة على تفاقم مصروفات الأجور، التى ارتفعت من نحو 85 مليار جنيه فى عام 2009 - 2010 إلى نحو 201 مليار جنيه خلال العام المالى 2014 - 2015، وتقدر مصروفات الأجور فى الموازنة الجديدة بنحو 218 مليار جنيه بزيادة 8.5% عن العام السابق، حيث سيتم تثبيت المكافآت والبدلات لجميع العاملين بالدولة بلا استثناء، كأحد الإصلاحات الهيكلية والمالية الضرورية لتحقيق الاستقرار المالى وتوجيه مزيد من موارد الدولة نحو الإنفاق على البرامج التنموية والحماية الاجتماعية. والمفارقة فى هذا الاعتراف الرسمى أنه لا ينطبق على جميع العاملين بالدولة بلا استثناء، بل يقتصر على العاملين المخاطبين بقانون الخدمة المدنية دون باقى العاملين الذين نظمت شئونهم الوظيفية قوانين خاصة!!!
وإلى الأسبوع المقبل لنستكمل تدارس الموضوع، خاصة إشارة الرئيس السيسى فى كلمته يوم عيد الشرطة إلى رفض البرلمان للقانون!