تجارة الكيف: البيع «نار» والأسعار فى متناول «محدودى الدخل»
تجارة الكيف
ظروف اقتصادية صعبة، انخفاض متواصل لسعر الجنيه، وغلاء تنفيه الحكومة ويستغيث منه المواطنون، صراعات وأزمات ومشاكل، وحوادث مفزعة شبه يومية، وعالم يبدو عصياً على العيش، أصبح اختيار الرحيل عنه وارداً ومتاحاً أيضاً للكثيرين، البعض ينتحر مباشرة، والبعض الآخر يختار الطريق الطويلة، حيث يواصل الغياب الاختيارى مقابل المال، وصولاً إلى الغياب النهائى الذى أصبح طريقه قصيراً أيضاً ووسيلته متاحة وسهلة «المخدرات».
النشاط الممنوع خارج نطاق الأزمة الاقتصادية.. والتجار «فى نعيم»
بعيداً عن أسعار السلع الغذائية التى ترتفع باستمرار من بقال التموين إلى «السوبر ماركت» دون أن تعود لما كانت عليه، تبدو سوق «المخدرات» واعدة، تعلو الأسعار وتهبط من جديد، تتعدد الأنواع والأشكال ويحظى «المدمن» يومياً بكل ما هو جديد، الصحة ليست عاملاً مهماً، ولا العمر أيضاً، فقط «المزاج» والنجاح فى الانفصال عن الواقع بكل بؤسه هو الأساس.
«ديلر» فى إمبابة: «صباع الحشيش» بـ250 جنيهاً.. و«البرشام» نزل من 160 إلى 15 جنيهاً
فى موقعه بمنطقة إمبابة يواصل «الديلر» الشهير عمله واعداً زبائنه بمزيد من التخفيض والتجديد، يهمس فى أذن شارٍ بعد آخر «لسه فيه صنف جديد تحفة، لون الماريجوانا وأقوى من الحشيش» مزيد من الوعود لأصناف لم يتم تسعيرها بعد لكنها تأتى مصحوبة بطمأنة «ما تقلقش هايبقى سعره حنين».
الديلر الثلاثينى يبدو واضحاً لمن يسأله: «البيسة أسوأ حاجة ممكن المتعاطى ياخدها، بنسميها فى المناطق الشعبية المادة، ودى عبارة عن أباتريل على لبن أطفال على برشام صراصير، الأباتريل دا دوا مفيش بلطجى أو حرامى أو صايع إلا وبياخده، وتأثير الدوا على البلطجى أو أى متعاطى إن قلبه بيموت، ممكن يعمل أى حاجة بدون شعور، وطبعاً الصراصير دى معروفة، بتعمل هلوسة شوية، لبن الأطفال بيتقل الكمية، وأقل حاجة منه بـ20 جنيه».
باحثون: أسعار السلع الأساسية ترتفع يومياً.. و«المخدرات» متاحة بتخفيضات
«البيسة» التى تعد لدى المتعاطين معادلة لـ«الهيروين» و«الكوكايين» تعوض المشتاقين لجرام «البودرة» النقى، الذى يبلغ ثمن الجرام منه ثلاثة آلاف جنيه «البيور بيبقى لولاد الذوات، لكن محدش بيقدر عليه، وغالباً بيتضحك عليهم وبياخدوه مضروب برضه، عشان كده البيسة شغالة ومنتشرة حتى بين الناس دى».
يبدو أن أسعار «الحشيش» بدورها ارتفعت لصالح «البيسة» فالـ«صباع» عرض سم واحد ثمنه 250 جنيهاً، أما البرشام فتتأرجح أسعاره طلوعاً ونزولاً، يقول «الديلر» وصل 160 جنيه من أصل 15 جنيه، ودى الفترة اللى نزلت فيها البيسة أول مرة، دلوقتى البرشام بـ16 جنيه والبيسة موجودة برضه بـ10 و20».
يعترف الشاب الذى يتعاطى من بضاعته أنه ينصح الزبون بـ«صدق» يقول «البيسة بتموّت، البرشام جاى من مصانع معروفة، لكن البيسة مكوناتها مش معروفة، مش بس التلات مكونات اللى اتقالوا، فيه مكونات تانية بتدخل بتوقع الجسم وتقل المناعة وتخلى الواحد يودع بسرعة، وشباب كتير راحوا بسببها، خصوصاً لما بياخدوها فى حقن ويخلطوها بمية المضاد الحيوى بتاع الأطفال، يضربوها» نصيحة يسديها لزبائنه، البعض يسمع حديثه ويكتفى بالـ«برشام» باعتباره أخف تأثيراً، والبعض الآخر يبدو محبطاً للغاية «بيقولوا لى يا عم كبر هى موتة ولا أكتر».
51% من المعالجين من الإدمان كانوا يتعاطون مادة الترامادول و25٪ منهم يتعاطون الهيروين.
حديث الأرقام هو الأصدق على الإطلاق، قد يشوبه عدم الدقة أحياناً، بزيادة أو نقصان غير متعمد، لكنه يبقى معبراً عن الواقع، أما وضع مصر فى مؤشرات رصد الإدمان، فيزداد سوءاً عاماً بعد آخر، ففى 2009 صدر تقرير عن الأمم المتحدة، حول المخدرات والجرائم المتعلقة بها، احتلت فيه مصر المركز الـ12 بين أكثر الدول المصدرة للحشيش، وفى 2011 رصدت إدارة مكافحة المخدرات ظهور «الفودو» فى الأسواق المصرية، أما الترامادول فحدث ولا حرج، ثمانية أشهر فقط من يناير إلى أغسطس 2011 تم ضبط 24 مليوناً و876 ألفاً و303 أقراص ترامادول.
فى 2014 أكد مدير صندوق مكافحة الإدمان أن نسبة الإدمان فى البلاد وصلت لـ24%، وأن 4.8% من السكان يدمنون الهيروين والبانجو والحشيش و7.7% الترامادول، الأسرة المصرية تستهلك 6% من دخلها على التدخين ونفقات المدمن شهرياً 240 حداً أدنى، وأن 85% من المدمنين يعيشون مع أسرهم.
«الفودو ده بقى بيهدى الواحد جامد، أصله علاج للحيوانات المفترسة من الهياج، شبه التبغ، الكيس الصغير بـ350 جنيه» يتحدث «عبدالعظيم»، أحد المتعاطين الذى يؤكد «الواحد بيخليه فى الحاجات السهلة اللى سعرها على القد مهما كانت جامدة، كيس الفودو ممكن يقضى أسبوع، والبيسة بتقضى الغرض لما الدنيا تخرم، إنما كله إلا البودرة، الجرام عندنا بـ150 وواحد صاحبى كان عنده جبل فلوس وخلص، صحيح راح مصحة واتعالج بس فلس، الواحد بيخليه فى الحاجات الحنينة».
يتساءل «أكرم»: «إيه سر الطلوع والنزول فى الأسعار، طول عمر الشم والأنجكة «الحقن» للناس الأغنياء، بس فيه حاجات كتير نزلت للغلابة عشان تشجعهم هم كمان على أساس إنها بودرة، خاصة إن الحشيش ماعادش بيحوّق فى ناس كتير، والنتيجة البيسة بـ20 جنيه، وبتموّت، أخو صاحبى رقد فى المستشفى شهر واحد واتكل، بسبب الكبد اتفرتك من كتر السموم اللى كانت بتوصله، وآخرة المتمة جاله إيدز، وكله من البيسة، وزيه كتير فى المستشفيات، شباب زى الورد بيروح، وده اللى خلانى بطلت».
السؤال نفسه يطرحه محمد، الصيدلى الذى أصبح يعرف عدداً كبيراً من التجار والمتعاطين بحكم عمله، ويقول: «سوق المخدرات مش مرتبط بالدولار، طلع نزل الأسعار ملهاش دعوة، الفكرة فى المواسم، لكن الأكيد إن مفيش قواعد، الهيروين انتشر جامد جداً الفترة اللى فاتت وأسعاره نزلت لـ50 جنيه التذكرة، والفودو دخل على الخط وسعره مش ثابت بيختلف من منطقة لمنطقة، العبوة قد أكياس البرفان الصغيرة، والسعر من أول 80 لحد 120 جنيه، من 8 شهور البودرة رخصت جداً، ومن حوالى سنتين تلاتة كان فرش الحشيش بـ800 أو 900 جنيه، النهارده بـ2000، حاجات بتطلع وحاجات بتنزل ومفيش سبب مفهوم، لكن الأكيد إنه دا المجال الوحيد اللى المنتج جواه ممكن يرخص، خاصة وإن العاملين فى المجال أصبح لديهم جرأة غير طبيعية، عائلات كاملة معروفة بالاسم، وقوف فى الشارع فى وضح النهار، مفيش عيب ولا كسوف».
«الوفرة والظروف الصعبة» عاملان يتناسب توافرهما طردياً مع زيادة التعاطى كماً وكيفاً، هذا ما يؤكده كريم محمد، الشاب البالغ من العمر 22 عاماً: «المرة الأولى ببلاش، عجبتك يبدأ مشوار السرقة والنصب عليك، الحاجة تاخد تلات أرباع وتدفع تمن قطعة كاملة»، هكذا الأمر ببساطة، صحيح أن الأسعار ترتفع وتنخفض، لكن البداية دائماً واحدة: «كلنا جوانا ميول إدمانية، بس الفرق بين واحد بيتعاطى وواحد لا، توافر الظروف والمخدرات، لو الظروف صعبة والمخدرات متوافرة ساعتها التعاطى بيكون سهل جداً، خصوصاً التجربة الأولى اللى دايماً ببلاش».
سجائر من سن السابعة، ومخدرات من سن التاسعة، الجهل سبب إضافى فى الإدمان «أول مرة شربت مخدرات كان عندى 9 سنين وماكنتش أعرف إنها مخدرات، قالولى دى حاجة جميلة هتفك الصدمة، وقتها كنت ما زلت بعانى من آثار وفاة والدى، مرة بعد مرة أدمنت أى حاجة تخلينى مبسوط وفرحان وتنسينى المشاكل، العبرة مش السعر ولا إنه يطلع وينزل، العبرة فى النسيان، كنت فى الأول حشيش وبدأت آخد ترامادول لأنى كنت بلعب جودو، والسجاير والحشيش دمرونى ذهنياً وعصبياً، فانتقلت للترامادول، أخدت ربع فى نص لغاية كنت باخد حبايتين ونص يومياً، بعد كدا أبتريل، ومع الوقت بدأت لذة الضرباية تروح، بدأت أعلى وأخدت أفيون وخمور، والبودرة، كانت آخر حاجة وصلتلها».
الباحث فى صندوق مكافحة الإدمان، تامر حسنى، أكد على الدور الذى تلعبه الأزمات الاقتصادية فى التعاطى، لكنها أكد: «مش لوحدها، العوامل متداخلة، وتراجع الحالة الاقتصادية لا يعنى تراجع التعاطى، بالعكس، بلاد كثيرة مواردها ضعيفة ومع ذلك تجد تجارة المخدرات بها رائجة، الأمر مرتبط بمشاكل نفسية واقتصادية وبالتعليم والوعى والثقافة».
«ما بيغلبوش»، هكذا يمكن وصف التجار بحسب «تامر»، الذى أكد أنه: «لما بيبقى فيه تشديد على نوع معين من المواد المخدرة تظهر أنواع أخرى وهكذا»، حلول غير مدروسة تقودها الحكومات «الحل فى كل بلاد العالم من خلال استراتيجية خفض العرض وخفض الطلب والتعامل مع المدمنين باعتبارهم مرضى يحتاجون العلاج، وليسوا مجرمين يتم سجنهم».
حلول «عشوائية» تساهم فى تحسين أوضاع «سوق المخدرات»، حتى إن «الوقاحة» تصل ببعض «الديلرز» إلى محاولة استرجاع المتعافين، يروى الباحث بصندوق مكافحة الإدمان، تامر حسنى: «الديلر بيبان، بيجيلنا بدعوى إنه عاوز يتعالح، لكن طبعاً بيبان جداً، ودا بهدف إنه يسيب أرقام تليفونه ويعمل شبكة علاقاته مع مدمنين أكتر».
تنامى سوق المخدرات، وتزايد أعداد المتعاطين مشكلة دولية بحسب محمود صالح، الباحث فى صندوق مكافحة الإدمان، الذى أكد: «بالفعل سوق المخدرات أكثر انضباطاً وعدالة من سوق السلع، فمثلاً حين زاد سعر قرص الترامادول نتيجة حملات الضبط الكبيرة انتشرت (البيسة)وهى عبارة عن جرعات هيروين مخلوطة ومغشوشة، تأثيراتها الجانبية بخلاف الإدمان عصية على الحصر، وقد ساهم انخفاض سعرها فى عدد أكبر من المتعاطين، خاصة هؤلاء الذين يتعاطون الهيروين الذى يحتل المرتبة الثانية فى كمية المواد المستخدمة فى الشارع».
75 ألف مريض تم علاجهم فى 2015، تراوحت نوعية إدمانهم بين 51.8% يتعاطون الترامادول، و25.6% يتعاطون الهيروين، مقابل 23.3٪ يتعاطون الحشيش، نسبة من يتعاطون المخدرات، فى مرحلة التجربة والتعاطى فى الفئة العمرية من 12 لـ60 سنة 10.4% من المصريين، هؤلاء بحسب الباحث بصندوق مكافحة الإدمان: «جربوها لمرة أو أكتر وهذا ضعف المعدلات العالمية»، أما من يدمنون ويحتاجون حجزاً وتدخلاً علاجياً فيقدر عددهم بـ2.4% وهو رقم مساوٍ لمثيله العالمى: «خلال 2015 فقط استقبلنا 31 ألف اتصال تليفونى ونجحنا فى علاج 75 ألف حالة».
يوضح «صالح» أن عدد المدمنين تحكمه عوامل وفقاً لسهولة الحصول على المخدر وسعره والشائعات المرتبطة به: «لما يتقال إن مخدر زى الترامادول بيزود القدرة على العمل والإمكانات الجنسية ويكون سعره معقول فوراً بيزيد عدد مستهلكيه، اللى بينخدعوا بالوظائف دى».
سوق رائجة أرست حقائق جديدة لم تكن موجودة من قبل يعددها الباحث بصندوق الإدمان، قائلاً: «عندنا فئات دخلت إلى عالم الإدمان لم تكن تعرف بهذه الصورة من قبل، 27% من المتعاطين إناث، كما أن سن التعاطى انخفضت بشدة فأصبح 1.1% من المتعاطين أطفالاً تتراوح أعمارهم من 12 لـ18 عاماً، وكلها نسب خطيرة ومؤثرة بشكل كبير وتؤكد أن المشكلة معقدة، ناهيك عن أن 25% من السائقين المهنيين يتعاطون المخدرات، ونسب التعاطى على الطرق السريعة 24% انخفضت مع الكشوف إلى 18%».
«سرعة إيقاع الحياة والضغوط المجتمعية المتزايدة والتوترات النفسية الشديدة التى يمر بها المجتمع المصرى ساهمت فى زيادة عدد المدمنين»، يتحدث الدكتور محمود أبوالعزائم، استشارى الطب النفسى، مؤكداً أن ثلاثة عوامل أساسية تسببت فى زيادة عدد المتعاطين أهمها تراجع أسعار المخدرات وسهولة الحصول عليها «مشكلة المخدرات قديمة منذ الأزل، لكنها تزداد يوماً بعد يوم».