راجل البيت.. و«دينامو» الثأر فى الجنوب
المرأة الصعيدية مصدر قوة الرجل
ما إن تقودك الأقدار لتندمج وسط أسرة صعيدية حتى تجدها «وتد» يستقطب الجميع حوله، فهى العمود الفقرى والمجتمع كله لا نصفه، إنها المرأة الصعيدية التى لا يعرف الكثير عنها، فهى العقل المدبر ووزير اقتصاد المنزل برتبة «أم»، هى «الكبيرة» التى لا رجعة لقراراتها، فهى سيف على رقاب أولادها مهما كلف الأمر، حتى زيجات أولادها هى فقط من حقها أن تختارها، فالثأر لعبتها وهى المحرك الرئيسى له، فمن يتراجع عن الأخذ به قد يلقى غضبها.. وما أدراك ما غضب «الكبيرة»، فوسط مجالس الصلح بين العائلات كلماتها مسموعة، وما تأمر به يُنفذ، ولا يستطيع أحد أن يعصى لها أمراً.
«بكرى»: أمى كانت مستحيل تقعد على طبلية وولادها وجوزها بياكلوا و«آمنة»: والدى كان بيركع قدام جدتى علشان ينول رضاها
«السيدة الصعيدية مثال للتضحية والإخلاص، فأمى ظلت ترتدى الأسود بعد وفاة والدى حتى لحظاتها الأخيرة».. قالها مصطفى بكرى، عضو مجلس الشعب، فنشأته وسط أسرة صعيدية حيث مسقط رأسه بمحافظة قنا مركز المعنة، جعلته شاهداً على تغير المجتمع من حوله بفضل التكنولوجيا والفضائيات، إلا أن المرأة الصعيدية لم يغيرها شىء، فهى تُولد بين أربعة جدران وتذهب إلى بيت زوجها لتظل بين جدرانه أيضاً تحمى مملكتها دون أن يشعر بها أحد، ودائماً وأبداً هى العمود الفقرى لأسرتها، إذ إنها تحمل على عاتقها مسئولية ترابط وتماسك الأسرة أكثر من الرجل نفسه.
وأشار «بكرى» إلى أن المرأة الصعيدية هى العقل المدبر لأسرتها، فهى من تعقد الجلسات بشأن أسرتها وتعد العدة لزواج أولادها من الابن الأكبر حتى الأصغر، كما أنها هى فقط من يحق لها اختيار زوجات أبنائها الذكور أو أزواج بناتها: «أمى زيها زى الأمهات الصعيديات.. مستحيل تقعد على الطبلية وولادها وجوزها بياكلوا، ومرة قلت لها اقعدى معانا قالت لى عيب يا وليدى شوفوا هتخلصوا إمتى وأنا هاكل لما تقوموا».
احتفاظ المرأة الصعيدية بعاداتها وتقاليدها لم يغيره الزمن، فرغم تغير العالم من حولها، فإنها ما زالت تحرص على التمسك بالقيم التى تربت عليها، فلا يزال يتذكر «بكرى» فى مناسبات عائلية حضرتها والدته إلى جانبه واقترح عليها ارتداء ملابس ملوّنة بدلاً من الأسود، فنزل طلبه كالصاعقة على أذنيها فردت عليه: «إيه اللى بتقوله ده، إنت عاوز البلد تضحك علينا ويقولوا مصطفى لبّس أمه ملوّن؟».
كلمتها سيف على رقاب الرجال.. وفمها لا يخرج منه «العيب»
وأكد «بكرى» أن المرأة الصعيدية هى المحرك الرئيسى لقضايا الثأر بالصعيد، ما جعلها تضحى بكل غال حفاظاً على كرامتها وكرامة عائلتها، فهى من تدفع أولادها للثأر وتعطيهم السلاح بأيديها رغم علمها بأنها تدفعهم للموت أيضاً، مشيراً إلى أنها مديرة المنزل التى تستطيع أن تلعب دور الرجل، فإذا غاب زوجها وقفت ترتسم على ملامحها الصرامة وتبدل حالها من أنثى تربى وتُطعم لرجل يأخذ القرارات المصيرية بشأن أسرتها، فهى من تدفع أسرتها دائماً للأمام ولا تسمح بالتجاوزات والخروج عن المنظومة: «فى مرة شافت مراتى قاعدة جنبى فى فرح، فطلبت منى الابتعاد عنها، فلا يجوز أن يرى الناس زوجة الصعيدى وهى تجلس إلى جواره.. وقالت لى الناس هتقول علينا إيه.. مقعّد مراته جنبه؟».
لم تكن تقبل والدة «بكرى» أن تستقل الطائرات وترفض السفر خارج الصعيد، فهى كالكثيرات من نساء الصعيد كانت ترفض مغادرته وترضى بالقليل وبسيطة، ورفض «بكرى» تجنى البعض على المرأة الصعيدية واتهامها بالباطل، فهو قبل أن يتجنى عليها ضربها بخنجر فى أغلى ما تملكه وهو كرامتها وشموخها: «يمكن أغلبنا لم ينل القسط الكافى من تعليمه ولكن المرأة الصعيدية استطاعت أن تُخرج أجيالاً يفخر بها المجتمع بأسره، فيكفى أنها وحدها من استطاعت الحفاظ على نقل عادات وموروثات الصعيد لأبنائها على مرّ العصور».
ابنة محافظة أسيوط وتحديداً قرية موشا، الدكتورة آمنة نصير، أستاذ الفلسفة الإسلامية والعقيدة بجامعة الأزهر الشريف وعضو مجلس النواب، تؤكد أن المرأة الصعيدية، وتحديداً الزوجة والجدة، لها احترام خاص يصل حد التقديس فيما تقول وفيما ترفض، مشيرة إلى أنها جابت محافظات عدة لم تجد صفات كصفات المرأة الصعيدية التى تتحلى بالصرامة فى تعاملاتها اليومية، فدائماً ما كان يركع الرجال من كبار عائلة «نصير» أمام جدتها، فهى الكبيرة التى لا يُعصى لها أمر: «وأنا طفلة كنت بشوف جدتى ووالدى بيركع قدامها عشان ينول رضاها عليه، كنت بحس بفخر رهيب، الست الصعيدية عظيمة وجدعنتها مالهاش حدود».
تقاليد المرأة الصعيدية وشهامتها جعلت «آمنة» تحرص على توارث المعتقدات وتنقلها بحذافيرها لأبنائها الأربعة ابتهال، دعاء، الشيماء، ومحمد، حتى تضمن أن يكبروا على نهج أجدادهم: «المرأة الصعيدية ما يخرجش من بقها العيب، بل تحرص دائماً على أن تكون مثل السيف فى جميع تصرفاتها.. لما جدتى ومن بعدها أمى كانت تصر على حاجة يبقى الجميع يخضع لما تراه الكبيرة ولا يستطيع أحد رد كلامها أو الاعتراض عليه».
وتتعدد سمات المرأة الصعيدية، إلا أن صفة العطاء هى السمة التى دائماً ما يتحدث عنها كل من تعامل معها، فعطاؤها لم يتوقف على منح المال، إذ إنها رغم صرامتها، تفيض بمشاعرها على الجميع، وتؤكد الدكتورة «آمنة» أن زوجة الكبير هى الشخص المعطاء والذى يجود على الجميع بفيض من الحنان، رغم أنها الآمر الناهى ولا صوت يعلو على صوتها: «كان عندنا 7 أو 8 خادمات من مختلف الأعمار كانوا لما يشوفوا جدتى يقولوا ستى جت ويقفوا لها تعظيم سلام بس هى كمان كانت بتعاملهم بمنتهى الإنسانية».
كبار السن من النساء أو «الكبيرة» كما يطلقون عليها فى الصعيد، كنّ دائماً وما زلن يتم الرجوع إليهن فى كافة شئون القرية أو العائلة، فإذا دُعيت لجلسة صُلح واستمعت إلى الطرفين وأقرت عقوبة على طرف ما، كان قرارها واجب النفاذ «حتى لو راحت فيها رقاب»: «فى أحد مجالس الصلح كانت جدتى تدير الجلسة وكنت أراقبها من بعيد، وبعد أن سمعت شكوى الطرفين قالت للعمدة خلى بالك أنا قلت هذا الأمر لا تعطى فيه الدنية فكان يرد عليها ويقول حاضر يا كبيرة».
أما بشأن تصريح تيمور السبكى بشأن نساء الصعيد، فقد وصفته «آمنة» بأنه «مخلوق لا يعرف قيم الصعيد وتقديسه وإجلاله لمكانة المرأة الصعيدية.. فنحن كصعايدة نحترم كبيرتنا ونساءنا.. فهن أيقونة الشرف والطهارة».