ذكرنا فى مقال سابق أن التجديد فى الفكر الإسلامى من المسلَّمات التى لا تحتاج إلى إرهاق النفس والعقل بحثاً عن أدلة لها، فمحصلو بعض العلم، فضلاً عن العلماء، يعلمون أنه لازمة من لوازم شريعتنا السمحة؛ فقد تدرج القرآن الكريم فى أحكام بعض المسائل حتى استقر حكمها النهائى قبل وفاة رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك نسخ أحكام تعايش الناس فى ضوئها ردحاً من الزمان دون أن تُضر عقيدتهم بهذا التغيير، بل عاب القرآن الكريم على السفهاء الذين تعجبوا من تغيير القِبلة؛ وأخبرنا أن صلاة مَن صلى إلى المسجد الأقصى صحيحة كصلاة مَن استدار متجهاً إلى القِبلة الجديدة حين نزول الأمر بذلك، ومن التدرج فى الأمور التى يشق على المكلَّف الامتثال لأحكامها النهائية دفعة واحدة ما حدث فى مسألتى الخمر والربا على سبيل المثال؛ حيث قال تعالى فى الخمر فى بادئ الأمر: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا»، دون تحريم، ثم قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ»، وهنا تحريم جزئى يرتبط بأوقات الصلاة، ثم كان التحريم النهائى فى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، وهكذا الأمر فى الربا.
وقد باشر رسولنا الأكرم، صلى الله عليه وسلم، التجديد فى كثير من المسائل؛ حيث تغيرت أحكام كثيرة فى أقل من ربع قرن من الزمان قضاها النبى، صلى الله عليه وسلم، رسولاً بين الناس، فقد نهى النبى، صلى الله عليه وسلم، عن تدوين السنة النبوية ابتداءً خشية اختلاطها بالقرآن الكريم، ثم أذِن بتدوينها حين اطمأن إلى قدرة صحابته، رضوان الله عليهم، وهم أهل فصاحة وبيان، على التفريق بين اللفظ القرآنى واللفظ النبوى. وقد نهى النبى، صلى الله عليه وسلم، عن زيارة القبور خشية تقديس مَن قُبر فيها كما كان يفعل الجاهليون قبل سنوات من بعثته صلى الله عليه وسلم، ثم أذِن فى زيارتها حين زالت الخشية من خلال ترسخ العقيدة الصحيحة فى نفوس المسلمين، تلك العقيدة التى تنفى نفع الميت للحى، فقال صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تذكِّر بالآخرة». ومن ذلك أيضاً التدرج فى حكم زواج المتعة حتى استقر الأمر على تحريمه نهائياً.
وما التدرج فى الأحكام إلا ضرب من ضروب التجديد؛ حيث ينزل الحكم التكليفى حين تنتهى مرحلة التهيئة لاستقباله، ويصبح المكلَّف قادراً على الامتثال له من غير مشقة، فيضاف إلى الأحكام التكليفية التى التزمها قبله، ولا يخفى على أحد إخبار رسولنا، صلى الله عليه وسلم، بظهور المجددين على فترات زمنية لتجديد أمر الدين للأمة.
ولذا، فإن بحث مشروعية التجديد فى الفكر الإسلامى يعد من الأمور العبثية التى تشبه جحد ضوء الشمس فى ظهيرة صيف! لكن المشكلة الحقيقية تكمن فى مدى فهم طبيعة التجديد والتفريق بينه وبين الهدم والتبديد، وفى معرفة مؤهلات المجدد قبل الخوض فى التجديد، فإقحام غير المؤهلين فى التجديد يجعلهم كمريض ألقى نفسه فى مخزن للأدوية لكنه لا يعرف الفرق بين هذا الدواء وذاك، فأخذ يتناول ما يفيده وما يضره دون وعى أو إدراك. كما توجد إشكالية أخرى تتمثل فى أن كثيراً ممن ظنوا أنهم علماء بتحصيلهم بعض العلم لا يفرقون بين النصوص المقدسة التى لا تقبل المساس -وهى نصوص القرآن الكريم والسنة الصحيحة- واجتهادات السادة العلماء المبنية على الأعراف التى تتغير بتغير الزمان والمكان، وبين المعصوم من البشر -وهم الأنبياء والمرسلون- والعلماء الأجلاء من سلفنا الصالح، فالخلط بين المقدس وغيره يوقع هؤلاء فيما وقع فيه من يتناول دواءً دون معرفة بضاره ومفيده، وسواء فى ذلك المنتهكون لقداسة المقدس وعصمة المعصوم ممن لا يقفون عند حد ويطعنون حتى فى كتاب الله، عز وجل، ويصفون الرسول الأكرم بما لا ينطق به عاقل ولا يكتبه قلم راشد، أو المبالغون فى إثبات القداسة والعصمة ممن يرون اجتهادات السادة الفقهاء وأقوال العلماء قاطبة خطوطاً حمراء غير قابلة لمجرد النظر والتأمل، فضلاً عن التفكير فى مناسبتها للزمان والأحوال، وكلا الفريقين على خطأ عظيم ومسلك غير قويم؛ حيث إنهم بين أمرين كلاهما يأباه شرعنا الحكيم، وهما الإفراط والتفريط، ومن ثم رأينا من يصف الفتوحات الإسلامية بالغزو والاستعمار، وسمعنا من يقول بعدم مناسبة بعض آيات القرآن الكريم للزمان، ووجدنا فى المقابل من يمنعون التصوير ولعب الأطفال التى على هيئة الإنسان أو الحيوان، ومن يلزمون الرجال بتقصير الثياب والنساء بالقرار فى بيوتهن، وينسبون هذا إلى فقهاء الإسلام وينقلون بعضاً من عباراتهم استدلالاً على مزاعمهم، ويغفلون عباراتهم المحذرة من الجمود عند حدود ما انتهوا هم إليه من اجتهاد ناسب زمانهم وقد لا يناسب زماننا، كما أنهم تركوا لنا فى بطون كتبهم ما يرشدنا إلى ترك بعض اجتهاداتهم والاجتهاد فيها بما يناسب زماننا وأحوالنا، فمن أقوالهم: إن الجمود على المنقولات أبداً من الضلال فى الدين وجهل بمراد علماء المسلمين، وقولهم أيضاً: إن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والأشخاص.. وهكذا نبهنا العلماء السابقون إلى عدم الجمود عند حدود اجتهاداتهم والتمسك بكل أقوالهم وكأنها نصوص مقدسة لا تقبل التغيير أو التبديل.
فيا أيها المفرطون ويا أيها المغالون تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ولا تتخذوا من قضية مسلَّمة نقلاً وعقلاً مطية لإفقاد إسلامنا هويته وشريعتنا سماحتها.