فى أحد برامج تعليم الملاكمة، قال المدرب إن هناك طريقتين للعب حين يقوم الخصم بحركات وضربات تصعيدية متتالية؛ إما الالتفاف والمناورة والابتعاد قدر الإمكان عن مجال الضربات اتقاءً لشرها، وإما مواجهة التصعيد بضربات مضادة وفى أماكن معينة تؤدى إلى جعل الخصم يتألم ويبتعد. وقال إن المسألة يجب ألا تأخذ من الملاكم أكثر من ثانية واحدة ليقرر ماذا يفعل. وإذا قارنا ما تقوم به إيطاليا مع مصر على خلفية تحقيقات مقتل الطالب ريجينى، يمكن أن نعتبر أنفسنا الآن فى لحظة القرار الذى يواجهه الملاكم فى مواجهة الخصم، فإما تصعيداً رداً على التصعيد، وإما احتواء آثار الضربات وإفشال نتائجها. والواضح أن مصر ما زالت تتمسك بأسلوب الاحتواء، وهو ما نستطيع استخلاصه من المؤتمر الصحفى للمستشار مصطفى سليمان، النائب العام المساعد ورئيس الوفد المصرى الذى ذهب إلى روما لمقابلة نظرائه الإيطاليين وعرض نتائج التحقيقات المصرية عليهم، وكذلك من المحادثة الهاتفية التى أجراها وزير الخارجية، سامح شكرى، مع نظيره الإيطالى بعد قرار الخارجية الإيطالية سحب السفير للتشاور ولم يكن الوفد المصرى قد غادر روما بعد، وجوهر الرسالة المصرية هو التأكيد على الاستياء من المنحى الإيطالى واستنكار تسييس القضية، وهى فى الأصل جنائية وفردية، ودعوة ضمنية للتراجع عن هذه الإجراءات التى تضر بعلاقات البلدين.
أما التصعيد الإيطالى فهو واضح وضوح الشمس؛ بداية من الحملات الإعلامية الممنهجة وتصريحات السياسيين الإيطاليين، ومروراً بالطلبات الغريبة، التى لا يقرها عقل، بشأن التحقيقات والحصول على أسرار لمليونين من المصريين لا شأن لهم بما جرى، ونهاية بقرار سحب السفير الإيطالى وإلغاء شركة الطيران الإيطالية رحلات بين القاهرة وروما دون سابق إنذار، وقرار وكالة السياحة الإيطالية وقف السياحة إلى مصر، فضلاً عن تصريحات رسمية لوزير الخارجية الإيطالى بأن هناك إجراءات عقابية أخرى يتم التفكير فيها ضد مصر.
هذا التصعيد الإيطالى له أسبابه المتعلقة بالصراع السياسى بين الأحزاب الإيطالية التى تسعى إلى إسقاط حكومة ماتيو رينزى الائتلافية، وهو أمر من الصعب التحكم فيه، وفى محصلته العملية، وهذا ما يهمنا أنها تدفع إلى مزيد من التصعيد غير المبرر، وربما إعلان إجراءات عقابية إرضاء للرأى العام الإيطالى الذى تم إلهابه إلى مستويات يصعب السيطرة عليها إلا من خلال مواقف شديدة التطرف.
وقد يقول قائل إن أسلوب مصر، وتحديداً وزارة الداخلية المسئولة عن التحريات وجمع المعلومات، فى إدارة الأزمة لم يكن أسلوباً موفقاً، بل ظهر وكأنه مرتبك وكأنه يوحى بذنب يسعى لإخفائه، كما أن المعلومات المتضاربة حول مقتل عصابة الحى الخامس، المتهمة بابتزاز الأجانب، ووجود متعلقات الشاب الإيطالى لدى شقيقة زعيم العصابة المقتول، جاءت بآثار عكسية شديدة الوطأة، وأثارت شكوك الجانب الإيطالى أكثر وأكثر، وربما دعمت افتراضات مسبقة بأن أجهزة رسمية وراء مقتل الطالب ريجينى، وهو افتراض يعنى أن الشاب المقتول لم يكن طالباً عادياً، وإنما له أدوار خاصة يدركها جيداً الجانب الإيطالى، وبالتالى يريد أن يجعل من مقتله درساً لمصر كلها. وفى المحصلة أن أسلوب الاحتواء المصرى، الذى يعكس حرصاً على العلاقات مع إيطاليا الدولة والشعب، والإصرار على حصر القضية فى مسار جنائى وحسب، لم يؤد إلى نتائجه المرغوبة.
وهنا أتساءل: ماذا لو أن مصر قررت أن تغير استراتيجيتها من الاحتواء إلى التصعيد المضاد؟ فقد ثبت حتى اللحظة أن الجانب الإيطالى رسمياً وشعبياً فقد عقلانيته ويخضع فى تصرفاته لعوامل ومسارات لا علاقة لها بالإجراءات الفنية والقانونية لجريمة قتل مرفوضة بكل المقاييس، وأنه مستمر فى الإساءة إلى مصر والإضرار بمصالحها. وللأسف هناك فى مصر بعض الأفراد والجماعات غير المسئولة التى تغذى هذه اللاعقلانية الإيطالية بأكاذيب ومواقف تضرب فى الصميم مصالح الوطن وأمنه، ويدفعها فى ذلك تصفية حسابات سياسية صغيرة مع وزارة الداخلية. وهم أنفسهم الذين يتشدقون بحقوق الإنسان حين يتعلق الأمر بأزمتهم مع الدولة المصرية أو إحدى مؤسساتها، أما حين يتعلق الأمر بمواطن مصرى مفقود منذ عدة أشهر فى إيطاليا ولم تقم الجهات المسئولة هناك بأى جهد حقيقى لمعرفة مصير هذا الإنسان المصرى، فإذا بهذه الجماعات صم بكم عمى، وكأنهم غير موجودين، أو على وجه الدقة لا يعنيهم المواطن المصرى المفقود حتى لا يغضب الممولون الأوروبيون من وراء الأفق.
وحين نتحدث عن التصعيد المضاد، لا نطلب تحركاً رسمياً وحسب، بل نطلب تحركاً شاملاً من كل المؤسسات والجهات المصرية بلا استثناء. فلتبدأ الخارجية المصرية باستدعاء السفير المصرى من روما للتشاور، ويكون مفهوماً أن عودته لعمله مرتبطة بعودة نظيره الإيطالى إلى القاهرة، ومهما طال الزمن فسوف يعود السفيران بعد أن تهدأ اللاعقلانية الإيطالية ويعود إلى صانعى القرار فيها قدر من الرشد الذى كنا نعرفه من قبل. وليقم مجلس النواب بدوره فى إعلان تضامنه مع موقف الحكومة، وأن يخاطب البرلمان الإيطالى برسالة محددة بأن مصر لن يهدأ لها بال حتى تعرف أين مواطنها المفقود، ويطالب فيها البرلمان الإيطالى أن يحث حكومته على إعلان الحقيقة. وأتصور أيضاً أن تقوم المواقع الإخبارية الإلكترونية بوضع صورة المواطن المصرى المفقود فى إيطاليا فى صدر صفحاتها والتذكير بمطلبنا الإنسانى الحقوقى بمعرفة مصيره وتحميل الأمن الإيطالى مسئولية مصيره، وسيكون إيجابياً إن أفاقت بعض جماعات حقوق الإنسان المصرية، وفى مقدمتها المجلس القومى لحقوق الإنسان والمنظمة المصرية لحقوق الإنسان، ووضعت معرفة مصير المواطن المصرى على جدول أعمالها، وأن تتواصل مع نظيراتها فى العالم بشأن اختفائه وكشف تقاعس الإيطاليين عن دورهم، وأن تنظم الفعاليات المختلفة لإثبات أن المصرى أولى بالمصرى. ولتقم وزارة التجارة بمنع استيراد السلع الإيطالية لمدة ثلاثة أشهر قابلة للتجديد، وليقم المستوردون المصريون بإعلان تضامنهم مع بلدهم وشعبهم ويوقفوا الاستيراد من إيطاليا طواعية.
التصعيد المضاد هو الأسلوب الآخر الذى لم يعد هناك بديل له، علينا أن نشكل أوراقاً للضغط المضاد. وليفهم الجميع أن مصر صاحبة الإرادة ليست قليلة الحيلة، وليست الملاكم الذى يتلقى الضربات ويغلبه الإرهاق. وليفهم الإيطاليون أن مصر لن تدفع ثمن صراعاتهم السياسية وحدها، بل هم أيضاً سيدفعون ذلك. جربوا هذه الاستراتيجية وسترون الفارق بأسرع مما تتصورون.