تفتحت عيناى وأنا طالب بكلية الطب عليه.. أُعجبت به ورأيته نموذجاً يمكننى تقليده.. كان مديراً لمستشفى ديروط، ذهبت إليه وأنا فى السنة الثالثة بالكلية، طلبت منه أن أتدرب فى المستشفى فى الصيف، فرحب بى كثيراً ورأى فىَّ طبيباً واعداً يحب العلم دون أن يطلب منه.. تعلمت منه ما لم أتعلمه من أحد.. يأتى باكراً جداً ليتابع كل شىء بنفسه.. الحديقة رائعة، والطرقات وعنابر المرضى تلمع نظافةً.. لا ترى ذبابة أو عنكبوتاً فى المستشفى الحكومى.
تعلمت منه رد «الكشف» إلى الفقراء والمحتاجين واليتامى والمرأة المعيلة.. كان يتفنن فى ذلك، فإن لم يجد سبباً اختلق سبباً ليعيده.. تعلمت منه أن حامل القرآن لا ينبغى أن نأخذ منه أجراً تعظيماً للقرآن.. وجدت أن معظم مرضاه بالمجان.. تفكرت فى ذلك طويلاً فى السجن قائلاً: «جاءتنى اليوم فرصة العمر لأفرّج كرب المرضى المعتقلين الذين انقطعت بهم الأسباب»، فأحبنى المرضى من الإسلاميين والجنائيين حتى «الشاويشية» والجنود.
كان يأتيه المريض ليجرى الجراحة فى عيادته فيقول: ولماذا تكلف نفسك؟ سأجريها لك فى المستشفى.. يصر المريض.. ويتمسك أستاذى ويجريها لمريضه بالمستشفى.
أراه فى الفجر أو المغرب أو بعد منتصف الليل فى غرفة العمليات يجرى جراحة لمريض.. كان يتقن أعقد العمليات بدءاً من الزائدة حتى استئصال الغدة الدرقية أو الطحال أو استئصال أجزاء من الأمعاء.
كان مرضى عيادته يدفعون ربع أجر الجراحات وكان يقبله منهم.. وقد قابلت أحدهم أجرى جراحة معقدة أجرها مائة جنيه فأعطوه 17 جنيهاً فقلت لهم: «وهل أخذها؟».. فقالوا: أخذها ولم يعترض.
وفى يوم من الأيام أجرى أستاذى جراحة كبرى فى القاهرة، فذهبت أسلم عليه وبين ثنايا الحديث سألته عن تكلفتها فقال لى 1200 جنيه.. فقلت هذا مبلغ كبير.. فقال لى: بل هو عادى.. إننى قررت هنا العمل لوجه الله.. نحن هنا لا نأخذ أجراً.. نحن نخدم الناس فقط.
ظل أستاذى يكشف على والدى ووالدتى مجاناً حتى أنهما كان يستحيان من ذلك ويذهبان لغيره.. حتى تلاميذى الأطباء لم يفعلوا ذلك.. وكانت أمى تقول: يا بنى أستاذك د.طوسون زعزوع ليس له مثيل.. فقد كان يكشف على نصف ديروط مجاناً.
ترجع أصول د.زعزوع إلى أسرة محمد على باشا وقدم إلى ديروط وليس لدينا فى هذه المدينة الكبيرة سوى ثلاثة أطباء.
لم يعرف الرجل البيزنس يوماً مثل أطباء اليوم الذين يتهربون «ويزوغون» من المستشفيات للذهاب إلى العيادات والمستوصفات الخاصة، أو يتاجرون -وهم أساتذة الطب- فى الأراضى أو الشقق أو غيرها.. مع أن رسالة الطب الإنسانية تتناقض تماماً مع رسالة التاجر المادية.
كان إذا خرج من المستشفى ووجد طبيباً أو طالب طب واقفاً عند باب المستشفى أركبه السيارة معه.
أعطاه الله بصيرة فى التشخيص لم أدرك سرها إلا بعد طول نقاش مع أطباء آخرين خلصنا فيه إلى أن التشخيص مثل الفتوى فهو «نور يقذفه الله فى قلوب الأطباء العلماء الرحماء».
وقد فاقت تشخيصاته تشخيصات أساتذة كبار وقعوا فى أخطاء فادحة لم نستغربها لكبرهم وغلظتهم.. حتى قال بعضهم «هذه الجراحة أجريها وأنا معصوب العينين أو أجريها بظفر قدمى».. ثم يموت مريضه من جراحة بسيطة.
حينما كبر أستاذى انتقل إلى القاهرة مع أولاده الأطباء.. ومات هناك وهو الوحيد الذى أقامت له مدينتنا جنازة وصوان عزاء دون أن تكون له أسرة أو أهل فيها فقد اعتبروه واحداً منهم.. رحم الله صانع المعروف د.محمود طوسون زعزوع.