بروفايل: قصر النيل.. كوبرى الغضب
ليس جسراً، ذلك الذى يمتد ليصل شرق البلاد بغربها، ويرتفع ليقطع النهر الذى يقسم البلاد لنصفين، ويتسع ليمر عليه الماشى والراكب، ويرق ليستقبل وفود المحبين والهائمين والمتسكعين، ويتجمل ليبدو صافياً فى الصباح بهيجاً فى المساء، ويكبر ليتجاوز عمره المائة عام، ويتفرد ليظهر حديد أسواره المشغول كالعلامة المائية فى أوراق البنكنوت، ويضعف لتحميه أربعة أسود برونزية تقبع فى جلال على مداخله ومخارجه، ويعظم ليقف سعد زغلول فى مواجهته وهو يشير بكفه إليه، ويهدأ عند الفجر ليبدو وكأن قدماً لم تطأه أبداً، ويثور فى «جمعة الغضب» ليتجمع فوقه آلاف المتظاهرين فى مواجهة قوات غاشمة لا تعرف سوى لغة البطش، ويشفّ لتقام فوقه صلوات الغاضبين، ويظل هكذا يمارس كل تلك الأدوار كما اعتاد دائماً، منذ أن وضع حجرَ أساسه رجل طموح حلم ذات يوم أن يجعل من القاهرة «قطعة من أوروبا»، فبنى بها القصور، وشق فيها الشوارع، وصمم بداخلها الميادين، ومنح ذلك الجسر اسمه الذى يعرف به حتى الآن «كوبرى قصر النيل».
من على الكوبرى يظهر النيل العظيم بلا نهاية شمالاً وجنوباً، ترتفع مبانى القاهرة وعمائرها فى شموخ، تطل الفنادق الفخمة على استحياء، تتزاحم المنازل الأنيقة بشرفاتها المزينة بأصص النباتات. يفضى الكوبرى إلى ميدان التحرير من ناحية القاهرة، كما يفضى إلى ميدان دار الأوبرا المصرية من ناحية الجيزة، الأخير يتوسطه تمثال برونزى للزعيم الراحل سعد زغلول، يقف فى شموخ مصوباً وجهه باتجاه الكوبرى وكأنه يشير للجماهير التى اعتادت أن تقطع الكوبرى فى لحظات فورانها، لتمر من عليه ذاهبة للقاهرة أو قادمة منها.
لم تعرف الجماهير الضخمة التى تتجمع فى مظاهرات حاشدة كوبرى قصر النيل إلا مؤخراً، ربما مع ظهور سعد زغلول نفسه وتبلور دوره السياسى فى الحركة الوطنية المصرية، ومع قيام ثورة 1919 ضد الإنجليز الذين كانوا يقبعون فى ثكناتهم داخل ميدان التحرير بدأ كل شىء يكتسب معنى جديداً، الميدان الذى كان يعرف باسم ميدان الإسماعيلية لم يعُد كما كان، صار بدوره قبلة الغاضبين الذين اختاروا طوال عقود أن يرفعوا أصواتهم لتصل إلى من يحكمونهم، صار عبور الكوبرى إلى ميدان التحرير هدفاً تهون من أجله الحياة، ويتضاءل أمامه كل شىء. ورغم تغير النظام أكثر من مرة، فإن الميدان ظل هو الميدان، وظل الكوبرى هو مفتاحه، وبوابته الرئيسية، يستقبل ملايين المواطنين الذين كانوا ينفرون وقت الأزمات إلى ميدان التحرير، ولم يكن هناك سوى كوبرى قصر النيل ليحملهم إلى هناك.
سوف يحتفظ الكوبرى بذكريات جليلة، كمعركة «جمعة الغضب»، وصلاة العصر فى ذكرى الثورة الأولى، واشتباكات دامية تصبغ الذكرى الثانية بلون كئيب يبدو أنه لن يزول بسهولة.