من يتأمل شعار جماعة الإخوان المسلمين يكتشف زيف الادعاء بأنها جماعة دعوة سلمية. فمن كتاب الله الحكيم لم تجد الجماعة إلا «وأعدوا» لتجعلها شعاراً. وتكملة الآية المعنية هى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم»، والمقصود بها إعداد العدة لمحاربة الكفار أعداء الله. ولم تختر مثلاً «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة». ولزيادة التأكيد على الطابع الاحترابى للجماعة تضيف الجماعة إلى الشعار سيفين متقاطعين، أى فى حالة حرب، وهو شعار أسرة «آل سعود» منذ بدأت تناصر الحركة الوهابية التى قامت فى نجد فى منتصف القرن الثامن عشر، بحد السيف.
وفوق ذلك، فالتنظيم يقوم على الولاء المطلق لرئيسه، المسمى للتعمية المرشد العام. فالعضو لا يُقبل إلا بعد أداء قسم الولاء التام للمرشد على المصحف. ولا يتردد التنظيم فى إقصاء العضو، ولو كان قيادياً، إن شق عصا الطاعة، بما يعنى فقدان مزايا الانتماء، وهى ضخمة فى المستويات القيادية. وجلى أن مثل هذا التنظيم عسكرى الطابع يتنافى تماماً مع الأفكار والأساليب الديمقراطية،
هذا إذن تنظيم حربى لا ديمقراطى مغلق ومعتم يكفّر من لا ينتمى إليه ويشن عليه الحرب ويضمر «الإرهاب» سبيلاً لنيل أغراضه. وتاريخ الجماعة يصدّق شعارها. والنتيجة الحتمية لهذه الذهنية هى تقسيم المجتمع حُكماً إلى فسطاطين، المسلمين والكفار الذين تجب حربهم حتى يُسلموا أو يخضعوا لشرع الله كما تفهمه الجماعة.
أضف إلى كل ما سبق أن الإطار المرجعى لتيار الإسلام السياسى هو أمة الإسلام وليس الوطن الصغير أو القطر، أو حتى الأمة العربية. وعلى هذا تهون الأوطان الأصغر. ومن هنا، فليس بمستغرب أن يؤدى وصول هذا التيار لسلطة الحكم إلى تمزيق المجتمع على الأقل بين المسلمين (فى السلطة) والكفار، ومن بين بين. وقد يصل التمزيق إلى الفصل الجغرافى والانفصال، كما حدث فى حالة السودان تحت حكم يدعى تطبيق شرع الله. وليس كل هذا بمهم فى عرف الإسلام السياسى ما دامت الغاية النهائية هى إقامة الخلافة الإسلامية فى «أمة محمد».
وفى كل هذا ما يتنافى مع أصول الدعوة فى الإسلام القويم، وآداب الدعوة فى صحيح الشريعة السمحاء. إذ يعتبر البارى عز وجل أن اللين فى الدعوة فرع من رحمة الله للعالمين، دعاة ومدعوين، وينهى قطعاً عن الفظاظة وغلظة القلب لكونها مثبطات لغرض الدعوة: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم» (آل عمران، 3). ويؤكد عز من قائل على الحكمة والموعظة الحسنة طريقاً للدعوة: «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين» (النحل، 125).
وإن كان هذا حال جماعة الإخوان التى قد يمكن اعتبارها سلفية معتدلة، فإن السلفية المتشددة والجهادية، وهى بمثابة نبت سام تفرّع عن جماعة الإخوان احتجاجاً على مهادنتها للأعداء فى أحيان، أشد غلواً وألصق بالفكر الوهابى المتشدد.
ويُستشف من تتبع آثارهم أن استراتيجية هذا الفصيل السلفى فى مسيرة تيار الإسلام السياسى المستمدة من تاريخ مُؤسسه محمد بن عبدالوهاب، هى المغالاة فى التشدد تعسيراً فى الدين السمح وتضييقاً على الحريات، وإخضاعاً للنساء اللائى يشكل قمعهن المختلط بشهوة الاستمتاع بهن، ولو كن أطفالاً، فى أن هاجساً يصل حد الهوس، وتوسل الغلظة والفظاظة سبيلاً للدعوة لإسلام التعسير والتشدد، وإن لم يكف فالعنف الجسدى حاضر وتاريخهم به مُخضّب.
وحيث تنفع الذكرى، فقد نشأت الحركة الوهابية بقيادة محمد بن عبدالوهاب فى «الدرعية» فى قفار نجد فى وسط شبه الجزيرة العربية الأجرد فى منتصف القرن الثامن عشر، وكان زعيمها حنبلى المذهب يميل إلى المغالاة فى الشدة فى التعاليم الدينية ولا يأخذ بالرخص التى أحل الله.
ومع ذلك فقد نمت الحركة الوهابية بمناصرة أمراء «آل سعود» لها وبالتنكيل بالقبائل التى لا تدين لها، وبلغت محاولتها نشر الدعوة بالعنف أن نهبت قبر الرسول ثم زحفت على كربلاء فى العام 1801 واستولت عليها فى مذبحة نكراء وهدمت مسجد الإمام الحسين فيها ونهبته. ولم تخمد الحركة إلا بعد أن جرّد عليها محمد على باشا والى مصر حينها، بحثٍّ من تركيا، حملة حربية ضخمة استمرت ثمانى سنوات فيما عُرف بالحرب الوهابية، تتالى على قيادتها ابناه طوسون باشا وإبراهيم باشا حتى استسلمت آخر معاقلهم فى العام 1818 وقُتل قادتهم. وهكذا قضت المشيئة، فمن عاش بالسيف مات به.
هذا إذن هو الائتلاف الحاكم لمصر الآن. فتأمل هول المأساة، بعد قرابة ثلاثة قرون من التقدم البشرى المتسارع، على مصر أن تواجه أتباع حركة دينية رجعية متشددة، بأساليب الوهابية الفجة ذاتها فى عصر التراسل الإلكترونى والسفر فى الفضاء. ولا غرابة أن بعض كبار متشددى السلفية يبدون وكأنهم من أهل الكهف، هيئة وقولاً!
ومن أسف أن حظى تيار الإسلام السياسى بدعم قوى من سلطة الحكم العسكرى بعد الثورة، ثم من سلطة الإخوان تبيّن فيما بعد أنه كان شأناً مرتباً بين أطراف داخلية وحتى خارجية، أخذ أشكال الإفراج الفورى عن محكوم عليهم بأحكام وصلت للسجن المؤبد والإعدام، والسماح بعودة بعض من عتاة المتشددين من المنافى فى باكستان وأفغانستان وإفساح الساحات الإعلامية لهم وتصديرهم كوجوه للمجتمع، بل وممثلين للسلطة فى بعض الشئون الداخلية. ولا ريب فى أن بعضاً من ذلك كان إحقاقاً لحقوق طال هضمها ونتاجاً طبيعياً لتحرير مواطنين من ظلم قامت الثورة الشعبية لدرئه. ولكن التقدير الآن أنه كان هناك أيضاً تزيداً يثير الشبهات وقلة حيطة بشأن أثر هذه القرارات على أمن البلاد ومستقبلها السياسى.
وهكذا، بطبائع الأمور، تمزقت مصر تحت سلطة الإسلام السياسى إلى فصائل متناحرة. فقد كانت كل خطوة من تصرفات سلطة الإسلام السياسى مدخلاً لتقسيم المجتمع المصرى بين من معهم، ومن ثم مرشح لرضا الله، ومن هو خارج عليهم، ومن ثم ينتظره عذاب النار. هكذا كان الحال فى الاستفتاء على التعديلات الدستورية برعاية المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مارس 2011، ثم انتخابات المجلس النيابى ثم انتخابات الرئاسة، وصولاً إلى الجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وانتهاء بقرارات الرئيس القره قوشية فى 22 نوفمبر.
والأخطر أن اكتسى التنافس بين فصيلى الإسلام السياسى على السيطرة على الوطن بعداً غاية فى الخطورة قوامه منازعة السلطة الإخوانية فى السيطرة على سيناء ولو باقتراف جرائم إرهابية بالعنف المسلح ما يثير مخاوف إقامة إمارة إسلامية متشددة فى شبه الجزيرة قد تمهد لانفصالها ويثير احتمالات إدخالها فى ترتيبات إقليمية مشبوهة لحل مشكلة قطاع غزة لإسرائيل على حساب مصر. باختصار، نحن على خطر حتى من التقسيم الجغرافى!