البعض يعيشون حالة من الرفاهية السياسية، يطالبون بصور مثالية للدولة فى واقع يئن من موروث ثقيل، لا يقربون من علاجاته، ويتصورون أن الثورة حدث يُطلب لذاته، دون تفكيك المخاطر التى أدت إليها، خطر التفكيك لوطن لا يقبل القسمة على أى رقم، وإلا لكان مآله أسوأ من سوريا والعراق وغيرهما من خبرات مؤلمة بالإقليم الحيوى له، فقد تهيأ للتشرذم والانشطار الفوضوى بعد تجريف لمنظومة قيمه وأواصره، بعضه متعمد وكثيره غبى لأنظمة فاشية بنكهة دينية.
وخطر استهداف الأقباط ودعاة دولة المواطنة، حال سقوط الدولة ونظام 30 يونيو تحديداً، وما الانفجارات الطائفية المتصاعدة نوعاً إلا إشارات لما سيعمم فيما لو تمكن الفاشيون الجدد من القفز على السلطة، وهم يخوضون صراعاً مصيرياً من الدولة ومع السيسى للعودة مجدداً للسلطة، عبر كوادرهم المنبثة فى ثنايا الأجهزة والمؤسسات التى تمكنوا منها بامتداد عقود خلت، على أرضية أذهان تم السيطرة عليها بخطاب دينى تجاوز سقف التطرف، ولعل السؤال الذى تغاضينا عن الإجابة عنه «أين ذهب كوادر الأمن الذين طالبوا بإباحة إطلاق لحاهم وهم فى الخدمة بل ذهبوا بمطلبهم إلى القضاء ونظموا حينها وقفات احتجاجية أمام البرلمان بزيهم الرسمى ولحاهم الكثة، وعندما رفض القضاء مطلبهم، (حلقوا) اللحى وعادوا إلى المظهر الطبيعى بحسب ضوابط العمل؟»، لكن بقيت منظومة أفكارهم معهم، ولعلنا أيضاً نقوم بجولة فى أروقة ومكاتب ومقار عمل غيرهم فى مفاصل منظومة العدالة لنكتشف بغير عناء مظاهر الموقف الذهنى الدينى حيث يوجب القانون والمنطق عدم وجوده، لأنه يكشف عن انحياز بالمخالفة لحيادية يفرض استقامة العمل وجودها.
ولسنا بحاجة إلى الحديث عن فساد استشرى بامتداد نصف قرن ويزيد لم يعد القانون بقادر على مجابهته، بعد أن امتد ليحاصره فى عقر داره، وصار الفساد بتنويعاته خبز يومنا ونسق حياة عند قاعدة عريضة، وصار الحسم والحزم مطلباً ملحاً، حتى لو اصطدم هذا بالصورة التقليدية للديمقراطية المتوهمة التى لم تختبر بامتداد تجربتنا عبر ستة عقود وأكثر.
وخطر الانهيار الاقتصادى الناجم عن المغامرات السياسية بتنويعاتها عبر أنظمة متعاقبة ومتباينة، اتفقت على أسلوب التجريب العشوائى لا يعتمد على التخطيط والمنهجية واستثمار الخبرات، فضلاً عن المغامرات العسكرية وتكلفتها التى ابتلعت كل مساعى التنمية المتوهمة، وحلم السيطرة الإقليمية فى دوائرنا العربية والأفريقية والشرق أوسطية بل وعالمنا الثالث، وبين الحروب وحلم السيطرة كان استنزاف الموارد وانفجار أزمات الفقر والجهل والتخلف.
بين أخطار التفكيك والاستهداف والانهيار الاقتصادى يأتى تقييم اللحظة، المطالبة بمواجهة هذه المخاطر فى ضوء حالة من انحسار المشاركة السياسية وهو انحسار تمتد جذوره إلى مرحلة تأميم الشارع السياسى، وقولبته، بعد أن سيطر على الذهنية السياسية حينها توجه أن «يصير الكل فى واحد»، وتعمق الانحسار والعزوف فى مرحلة تالية حين أضيف إلى التوجه «تديين الفضاء السياسى» الذى تمخض فولد إرهاباً وفرزاً وطائفية، وفى مرحلة ثالثة، ينتقل التوجه إلى القصور الذاتى وإطلاق يد الفساد، لتنهار منظومة القيم ويتفسخ الشارع والمجتمع ويواصل انحداره بغطاء كثيف من التزييف وادعاء «التدين» وتتشكل مرحلة المتشابهات.
وكل هذا ليس بعيداً عن الحراك الإقليمى الذى يسعى لتعظيم دور ومكاسب قوى إقليمية وعالمية على حساب الدول القومية بالمنطقة، فكان انهيار أبرزها «سوريا والعراق»، وكانت مصر العقبة الكؤود أمام امتداد هذا السعى، وكانت المؤسسة العسكرية المصرية اللاعب رقم واحد فى حماية مصر من السقوط.
ومن ثم يكون الحديث عن الديمقراطية حديثاً مرسلاً بغير التأسيس لدولة القانون والمواطنة وبغير البحث فى غياب الأحزاب، ولهذا حديث آخر.