تساءلت عما إذا كنت أستفيق من إغفاءة، وكم استمرت هذه الإغفاءة حتى إننى لم ألحظ كيف اكتظ شارع شبرا هكذا بالبشر بينما سائق التاكسى يدور فى نفس النقطة كأنه مثلى ساورته الشكوك وهو ينظر إلى جدران البيوت القديمة كأنها متاحف توقظ القدر ذاته من الحنين والفضول وهى تمتزج بالبنايات الحديثة كأنها معجزة خرسانية، ويحدق بافتتان فى الأضواء المنبعثة من مصابيح الشوارع، ثم تغمره الطمأنينة؛ على الأقل فى تلك اللحظة، حين يرى الهلال يحتضن الصليب فى زينة رمضان التى تنسدل على الشرفات وتعلقت كجسر بين البيوت قديمها وحديثها، ولا يهمل السائق العجوز أن يعلن عن بهجته ويقول: ما تلاقيش الكلام ده غير فى شبرا، وقبل أن يسترسل فى كلامه عن التسامح والمحبة بين طرفى الأمة، قاطعته وأنا مُقدرة حالة الوجد التى تتملكنا فى الشهر الكريم؛ وسألته أن يحررنا من المتاهة التى ورطنا فيه دون أن يعترف بمصيرنا المشترك فى «التوهة»، ويواصل «فذلكته»: أنا عارف كل حاجة، ثم يشهر بطاقته فى وجهى: ده أنا من الجمالية، يعنى من منطقة نجيب محفوظ أديب المدينة لا مؤاخذة، ألقى جملته الصاعقة مختالاً ولم يمنحنى ولو ثانية لأسأله ما الذى يعرفه عن أديب المدينة أو كيف نحت هذا التوصيف ولماذا أضاف هذه الـ«لامؤاخذة»، حيث راح يسترسل ويحكى عن المرة الوحيدة الذى قام فيها بتوصيل نجيب محفوظ إلى إحدى ندواته وكيف أهابه رغم ضآلة جسده الذى تلاشى فى ضخامة البالطو الشتوى الثقيل الذى كان يرتديه، لكنه أحس بخدر المحبة التى جعلته يتلعثم وهو يقول له: إزيك يا أستاذنا، بلا أى خوف من الحرس الذى يرافقه.
من فضاء حكايته إلى «بلاطة» الواقع الضيق، لحظة مثالية التكوين تحمى القلب من التلف أو حسب صلاح جاهين فى رباعياته: «بس هو الحب قارب نجاة»، فعين المحب أو العاشق ترى ما لا يراه الناظرون، كما قال الحلاج، فكيف لو كان فعل المحبة يفيض بالنور الإلهى ويحمينا من ضجيج وأصوات تدمرنا وأزيز رصاص لا يكف؟ ليس هناك ما هو أكثر مدعاة للرضا والفرحة من نفق للخروج وحضور أمسية صوفية لافتة فى كثافتها ووحدتها المنسجمة بكلماتها وموسيقاها كما «فى مديح المحبة» المعروضة على خشبة المسرح القومى والمأخوذة من «ظل ممدود» للكاتب عبدالرحيم كمال، الذى تتمحور فلسفته حول أن الطريق إلى الله هو طريق المحبة، وهو النص الذى تحمست له سوسن بدر وطرحت فكرة عرضه مسرحياً وشاركت فى تقديمه أيضاً مع خالد الذهبى وبهاء ثروت وفرقة «فراديس للإنشاد الدينى» بقيادة المنشد صلاح عبدالحميد، وإخراج محمد الخولى.
يدخل صوت الممثلين هادئاً ومُسالماً وإن كان يشعل القلب بأسئلة تستبطن ما يحدثه الهوى، تدعمها الفواصل الموسيقية والغنائية المصاحبة، ثمة ضربة العشق التى لا مردّ لها، عاشق يلتقى طيراً وينطلقان معاً فى رحاب سماء المحبة، سبع سموات أولها سماء الأدب وآخرها سماء اليقين، ومع كل سماء يزول القلق ويزيد الحب، و«للحب سلم لا يصعده منافق» و«اللحظة هى سيف الله النافذ»، وصدى الأمسية يصل إلى درجة أنك حين تجتاز المسرح القومى وتنأى عن بابه إلى صخب ميدان العتبة وتتبادل خطواتك مع صيحات كالطبول لا تستطيع أن تميز مفرداتها، فثمة شىء جديد لن يفارقك؛ ثمة نسمة تهب عليك وتجعلك تقول: «لا بأس من محاولة أخرى فى رحلة الحياة»، حتى وإن وقفت فى دائرة الميدان الذى يعج بالسيارات والبشر وقد اختلطت عليك أسهم الاتجاهات ولم تعد تعرف أى طريق تسلك إلى ميدان التحرير أو مصر الجديدة.