من أهم مميزات الحاكم العادل.. الرجوع عن الخطأ متى اكتشفه.. والعودة إلى الصواب والاستماع للنصيحة.. حتى وإن أتت بأسلوب لا يليق به كحاكم..
والواقع أن تاريخنا الإسلامى حافل بقصص تثبت صحة ما سبق.. فكم من خليفة قد استمع للنصح من أهل العلم.. وكم من والٍ عاد فى قرار اتخذه بعد أن اكتشف مدى خطئه..!
اليوم ما زلنا مع هارون الرشيد.. ذلك الخليفة المفترى عليه فى تاريخ هذه الأمة.. الذى لم أعرف أبداً من صاحب المصلحة فى تشويه ذلك الورع التقى أبداً..!
فيحكى أنه لما ولى هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء ليهنئوه بها.. ففتح بيت المال وأجزل لهم العطايا.. ولكنه لاحظ أن الزاهد سفيان الثورى -صديقه القديم الورع التقى- لم يحضر.. فحزن هارون الرشيد لذلك.. وكتب إليه كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبدالله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر، أما بعد.. يا أخى قد علمت أن الله تبارك وتعالى آخى بين المسلمين وجعل ذلك فيه وله، واعلم أنى قد واخيتك مؤاخاة لم أصرم بها حبلك، وإنى منطوٍ لك على أفضل المحبة والإرادة ولولا هذه القلادة التى قلدنيها الله لأتيتك ولو حبواً لما أجد لك من المحبة فى قلبى، وإنى استبطأتك فلم تأتنى وقد كتبت إليك كتاباً شوقاً منى إليك شديداً فإذا ورد إليك كتابى فالعجل العجل..
لقد أرسل أمير المؤمنين إلى أحد رعيته يستعطفه ويرجوه فى القدوم إليه!!.
ثم أرسل الكتاب مع رسوله وأوصاه أن يذهب به إلى سفيان الثورى ويراقب كل ما يصدر عنه من ردود الأفعال.. ثم يأتى إليه بالرد..
لم يكن استقبال الرسول من سفيان جيداً.. فقد رفض الجلوس معه.. بل ورفض أن يمس الرسالة بيده حتى إنه جعل الرسول يقرأها.. ثم طلب من الرسول أن يرد على الخليفة فى ظهر الرسالة نفسها.. فقال:
من العبد المذنب سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذى سلب حلاوة الإيمان، أما بعد فإنى قد كتبت إليك أعرفك أنى صرمت عنك وقطعت ودك وقلبت موضعك فإنك قد جعلتنى شاهداً عليك بإقرارك على نفسك فى كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته فى غير حقه وأنفذته فى غير حكمه ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناءٍ عنى حتى كتبت إلىّ تشهدنى على نفسك أما أنى قد شهدت عليك..
كأنى بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك فى ميزان غيرك وسيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة فاحتفظ بوصيتى واتعظ بموعظتى التى وعظتك بها واعلم أنى قد نصحتك، وما أبقيت لك فى النصح غاية فاتق الله يا هارون فى رعيتك واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم فى أمته وأحسن الخلافة عليه واعلم أن هذا الأمر لو بقى لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد.
فلما عاد الرسول بجواب سفيان إلى هارون الرشيد قام قائماً وجعل يلطم وجهه ورأسه ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل مالى وللدنيا والملك يزول عنى سريعاً..
الطريف أن بعض الحضور فى مجلس «هارون» قد أشار عليه بسجن «سفيان» لتطاوله على أمير المؤمنين.. إلا أنه قال لهم:
اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقى من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرأه بعد كل صلاة حتى توفى رحمه الله.
وللحديث بقية..