منذ زمن بعيد تمكن المصريون من تحويل التسول أو الشحاتة إلى فن، يصح تسميته بـ«فن الشحاتة». قبل عقود طويلة من الآن كان المتسولون يتفنّنون فى الإتيان بكل جديد من أجل استدرار عطف من حولهم، والضغط عليهم من أجل إخراج ما فى جيوبهم، لم يتوانَ بعضهم عن استغلال العاهات والأطفال وكبار السن من أجل استجلاب العطف والتعاطف، ليس ذلك فقط، بل ظهر بينهم متخصصون وظيفتهم إحداث العاهات لمن يريد أن ينخرط فى هذا الدكان الكبير «دكان شحاتة»! عالج الأديب العالمى نجيب محفوظ هذا الأمر بعبقرية فى رواية «زقاق المدق»، من خلال شخصية «زيطة» الذى تخصّص فى إصابة من يريد الدخول إلى هذا العالم بعاهة تُدر عليه العطف، وهناك أعمال فنية كثيرة عالجت هذه الظاهرة التى أصبحت -منذ زمن- جزءاً لا يتجزّأ من حياة المصريين، من بينها مثلاً، فيلم «إضراب الشحاتين»، و«الموظفون فى الأرض» وغيرهما.
ولا خلاف على أن شهر رمضان موسم من المواسم التى تروج فيها «فنون الشحاتة»، وجمع أموال الزكاة والصدقات، ولا يبتعد «صناع الإعلانات» المروجة لهذه الظاهرة عن الأسلوب التقليدى الذى اعتمد عليه «زيطة» فى زقاق نجيب محفوظ. مثلاً الإعلانات التى تحثّ على التبرّع لمستشفيات علاج سرطان الأطفال تلعب اللعبة القديمة المتجددة نفسها، فتأتى بطفل من الأطفال المصابين بهذا المرض اللعين، شفا الله جميع أطفالنا منه، نحل شعره، ونحف وجهه، وتهدّج صوته، نتيجة المرض، وأدوية العلاج، طفل يثير العطف والرثاء حتى دون أن يتكلم، فإذا تكلم الطفل ليحث الناس على التبرّع، فهو ينخرط فى حديث، تم إعداده وتلقينه للطفل بشكل محكم، ليبدأ فى تمزيق قلب من يسمع أو يشاهد، والنتيجة فى مثل هذه الحالات مضمونة، والدليل على ذلك هو تلك المليارات التى يتم جمعها للمستشفيات والمشروعات التى تعتمد على المتاجرة بآلام الأطفال على وجه الخصوص.
هل أطفال السرطان -شفاهم الله- وحدهم هم الذين يتألمون؟!. مؤكد أن ثمة أطفالاً غيرهم يتألمون أيضاً، بل ويؤلمون المجتمع ككل، بما يعانونه من آلام. عندك أطفال الشوارع مثلاً، ألا يعانى هؤلاء بعمق من حالة ضياع متكاملة المعانى والمبانى؟ إن أطفال الشوارع يبلغون فى عددهم أضعافاً مضاعفة لأعداد الأطفال المصابين بالسرطان، لكن حجم التبرعات التى تُجمع لحساب أطفال السرطان بالملايين، أما أطفال الشوارع فلا يوجه إليهم إلا «السحاتيت»، ولا يسعى أحد لجمع تبرّعات لحل مشكلاتهم، لأن طفل الشوارع لن يبتز عواطف المشاهدين فى الإعلانات، مثلما يفعل طفل السرطان، وبالتالى فهم بضاعة كاسدة، رغم أنهم أولى بالرعاية أيضاً، ويشكلون خطراً على أنفسهم وعلى المجتمع الذى يعيشون به.
لا خلاف على أن علاج أطفال السرطان أمر واجب، والتعاطف معهم مسألة إنسانية، لكن علينا أن نأخذ فى الاعتبار أن هذا الواجب يرتبط بالدولة، وليس بأى جهة أخرى، وإذا كانت الدولة لا تملك القدرة على رعاية هؤلاء، فمن واجب الجميع أن يتضافر معها ويوجّه هذه التبرعات إليها، حتى تستطيع القيام بواجبها، أعلم أن البعض لا يثق بالحكومة، ويظن أن تبرّعاته لن تذهب إلى الغرض الذى دفعت من أجله إذا وضعها فى يد الحكومة، لكن على من يفكر بهذه الطريقة أن يسأل نفسه: وهل تصل التبرعات التى تدفع لكل من هب ودب إلى مستحقيها؟!