في مليونية "النهاية" و"حقن الدماء" تائهون بين العباسية والتحرير
ينظر "ياسر" في ساعة تليفونه المحمول التي قاربت على الواحدة من صباح مليونية "النهاية"، لايكترث بالمشاجرة الدائرة فوق كوبري قصر النيل بين الباعة والتي تسببت في توقف حركة السيارات لنصف ساعة، يحمل السلم الخشبي متنقلاً بين أعمدة الإنارة في شارع قصر النيل المؤدي لميدان التحرير لوضع ملصقات المرشح الرئاسي أحمد شفيق [Quote_1] أملاً في أن يمتلئ الميدان بالمتظاهرين، يقول:"أنا سواق ميكروباص، الجو مريح اليومين دول بسبب أزمة الجاز، وبشتغل كل يوم من 8 مساء إلى 6 صباحًا في تعليق ملصقات شفيق:يتابع:"الناس اللي بتشوفنا تقولنا "ملقتوش غير الراجل ده"، وناس تانية تقول ربنا يبارك فيه، أنا مش تبع الحملة، ومش هنتخب شفيق، أنا بعلق وبأخد فلوسي وأروح.
"محمد السيد" شاب في العشرينيات بجلباب وملامح وجه صعيدية وبشرة سوداء، يبيع "السميط" على أطراف ميدان التحرير، ولايعرف شيئًا عن مليونية النهاية، يقول:"هو في مليونية النهارده؟ طب عشان إيه؟"، باستكمال المسير إلى قلب الميدان لايلفت الانتباه سوى التواجد الكثيف للباعة وغياب تام للثوار وخلو الخيام من ساكنيها من أولاد أبو إسماعيل.
أمام مجمع التحرير، لاصوت يعلو فوق صوت القرآن بصوت أحمد العجمي في "نصبة شاي"، لن ترى عيناك سوى خيام مضيئة يبدو أنها ابتعلت ساكنيها، شاب ملتحٍ في أواخر العشرينيات يتحرك بين الخيام على أمل الوصول إلى أولاد أبو إسماعيل، لكنه يكتشف أنها خيام وهمية بلا سكان .. اسمي محمود من مدينة السلام، ودى أول مرة أنزل ميدان التحرير، الفضول دفعني أني أشوف التحرير وأشوف الناس اللي فيه، قبل وصول محمود إلى الميدان توقع أن يرى الميدان قد ازدحم بالمتظاهرين "مشفتش غير بياعين وأرزقية، مش هما دول الثوار الحقيقيين".
حالة عدم الرضا على شكل الميدان، جعل محمود يفكر في ترك الميدان، ومتابعة ما يحدث في مصر من خلال شاشة التليفزيون "هروح البيت، وأصحى الصبح أصلي الجمعة، وأقعد بعدها أشوف الأحداث في التليفزيون".
وبالنسبة لـ"أحمد فوزي"، فهي المرة الأولى التي ينزل فيها للميدان بدافع "حب الاستطلاع"، ووجد الميدان "زي ماتوقعت، بياعين وبلطجية، أنا من النهضة وعارف وجوه البلطجية وأسلوبهم وملامحهم"، لم تمر دقائق حتى سمع صوت شاب يصرخ بجوار المجمع يستغيث من الدماء التي تسيل من ظهره بعد ضربه من أحد البلطجية وسرقة تليفونه المحمول، يتابع فوزي "أنا بكره مصر، مفيش انتماء، والله لو جت فرصة مضمونة أني اشتغل جاسوس هشتغل"[Quote_2]
الساعة تقترب من الرابعة صباحًا .. يدخل "محمود علي" "28 عامًا"، بسيارة ربع نقل جاء بها خصيصا من مدينة السلام، على بعد 50 كيلو متر من قلب القاهرة بحثًا عن الحقيقة في ميدان التحرير "عايز أعرف الحقيقة، عايز أعرف مين الصح ومين الغلط، أنا توهت"، لكنه يصدم بشكل الميدان الذي خلا من الثوار صبيحة مليونية النهاية "الاستعدادت مش زي كل مرة، لايوجد تأمين للميدان، دخلت بالعربية بتاعتي للصينية ومحدش وقفني".
محمود الذي اعتاد النزول للتحرير في أوقات التظاهرات، قرر أن يترك الميدان ويتجه للعباسية، في طريقه للعباسية يحكي محمود عن صديقه الذي تزوج من إسرائيلية "صديقي سافر إسرائيل، نفسي يكلمني، نفسى أعيش مستريح"، وعلى بعد خطوات من مسجد النور يستوقفه كمين للشرطة، وعندما يقترب من تجمع المتظاهرين تسرح عينا محمود مع الكميات الكبيرة من الطوب التي وضعت في مدخل النفق المؤدي لوزارة الدفاع، والتنبيه الذي يخطف عيناك: "تنبيه هام:أخى الثائر اخلع انتمائك الحزبي قبل الدخول للثورة"، واللافتات التي كتبت في مدخل الاعتصام "يسقط حكم العسكر"، و"مستمرون"، ووجوه فانديتا.
هنا فى العباسية الحياة تبدو أكثر حركية ودرامية، خيام بطول الطريق، تمتزج لافتات 6 أبريل مع السلفيين، وانتشار لباعة اللب والفيشار والحلويات والشاي، وهذا رجل ملتحٍ يرتدي جلبابا ويمر على المعتصمين قائلا:"الناس تؤمن نفسها عشان في هجوم "عشرات الرجال الذين يفترشون الأرض للنوم، الساعة تقترب من الخامسة صباحًا، يقترب محمود من رجل في منتصف الثلاثينيات اسمه عماد شوقي يرتدى جلبابا ويكسو وجهه لحية كثة ويفترش الأرض، يقترب منه ويجلس بجواره ويسأله "هو انتوا ليه ياشيخ ماتتجمعوش ايد واحدة في التحرير"، ليجيبه عماد شوقي الذي يعتصم في العباسية منذ الجمعة الماضية "عشان مفيش زخم ثوري في التحرير، واحنا مش عايزين ثورة ثورة حتى العصر، التحرير أشبه بالبارك، ولم يعد ورقة ضغط على المجلس العسكري، لأنه فرغ من مضمونه وتم تشويهه بالدفع بالبلطجية".
"منزلتوش الميدان غير عشان مصلحتكم" يسأل محمود، ليجيب الشيخ السلفي "أنا في الميدان من أول يوم، الثورة نجحت لغياب الهويات، مفيش ولاد أبو اسماعيل، معانا في الاعتصام 6 إبريل واشتراكيين ثوريين، لاتوجد لافتات فئوية"، ويوضح عماد أنه لن يترك ميدان العباسية إلا في حالة تحقيق المطالب "نحلم بوطن من غير حكم عسكري، وألا يحاكم مدني أمام محاكم عسكرية"، يتابع"اللي يرضينا ويجعلنا نفض الاعتصام، إلغاء المادة 28 من الدستور، تغيير اللجنة وتشكيل لجنة ثورية مع ضرورة التحقيق في كل الدماء التى سالت في مصر.[Quote_3]
يستكمل محمود المسير في الشارع وصولاً للنقطة الفاصلة بين المتظاهرين وقوات الجيش التي تحصن وزارة الدفاع، تلمح عيناه 3 أشخاص يقومون ببناء حمام "رجالي وحريمي"، مجموعة من الشباب يلعبون كرة القدم، يستمع إلى الهتافات التب يطلقها الألتراس أمام السلك الشائك فب مواجهة ضباط الشرطة والجيش "ياغراب ومعشش جوه بيتنا ضيعت ليه متعة حياتنا"، "حضرات السادة الظباط .. عيشوا بشرف"، "يسقط يسقط حكم العسكر"، "ياعسكري دقق فينا يمكن يطلع أخوك وسطينا، "العسكر لازم يمشي"، "هتفضل بلطجية لحد ماتوصلنا للحرية"، ثم يمتد نظر محمود إلى المئات من العساكر والضباط الذين يجلسون على الأرض ولايحركون ساكنا أمام سيل الشتائم والهتافات.
تقترب الساعة من السابعة صباحا يقرر محمود العودة بسيارته مرة أخرى لميدان التحرير، انتظارا لوصول الأعداد من المتظاهرين وصلاة الجمعة في قلب الميدان، وعندما يصل للميدان يجده خاليا من المعتصمين، ليتساءل:"مش كنت قعدت في العباسية أحسن، ليقرر بدون تفكير العودة للعباسية لقضاء مليونية النهاية.