«الوطن» تقضى يوماً فى «جمعية استهلاكية».. حضر الغلابة وغاب الرز والسكر
مواطنون ينتظرون الحصول على الأرز والسكر
شارع متسع غير ممهد يفصل بين مياه ترعة الزمر العكرة وبين إحدى الجمعيات الاستهلاكية الحكومية التابعة لوزارة الاستثمار، مثل معظم جمعيات الشركة القابضة للصناعات الغذائية، واجهة الجمعية قديمة وتحمل اسم «شركة الأهرام للمجمعات الاستهلاكية»، تفتح أبوابها أمام المواطنين فى تمام التاسعة صباحاً وحتى الثامنة مساء، يعمل بها عدد قليل من الموظفين، علامات القدم تظهر عليها بوضوح وتبدو مثل المخازن الحكومية البالية، ويباع بها تقريباً كل أنواع السلع التجارية.
على أبواب الجمعية وقفت وجوه متشابهة، نالت منها الظروف الاقتصادية واستبدلت الابتسامة بالحزن والاكتئاب، واقع يومى مرير يجبرهم على الحضور إلى الجمعية الاستهلاكية بحثاً عن سلع ارتفع سعرها بشكل كبير فى محلات السوبر ماركت، ويحاولون الاستفادة قدر المستطاع من الدعم الذى تقدمه الحكومة لهم شهرياً، يسألون فى تعفف عن صحة تصريحات الحكومة والوزراء حول توافر الأرز والسكر واللحوم فى المجمعات من عدمه. «الوطن» وُجدت مع المواطنين فى قلب الجمعية لمعرفة توافر السلع الاستهلاكية بها أم لا وكيفية تعامل المواطنين مع موجة ارتفاع الأسعار فى الفترة الأخيرة.
موظف: من 15 سنة كان فيه دعم على كل السلع دلوقتى مفيش لأن المجمعات تتبع وزارة الاستثمار.. وتصريحات الوزراء بتيجى على دماغنا لأن مفيش حاجة منها بتتحقق على أرض الواقع
أمام الباب الرئيسى المتهالك سيدة خمسينية تمسك ببطاقة التموين وتطلب الحصول على فرق نقاط الخبز فيرد عليها الموظف بصوت مرتفع ومقتضب: «مفيش سكر ورز»، فتعاود السؤال بغضب: «أمال هناخد إيه؟»، فيقول: «خدى أى حاجة تانية». تستسلم السيدة للأمر الواقع وتنصرف. يقول الموظف: «السكر والرز بينزلوا الجمعية كل أسبوع أو 10 أيام، بينزلوا طن واحد بس من كل نوع وبيخلص على طول، الأول كانوا بينزلوا 3 طن والجمعية بتخدم مناطق كتير زى أبوقتادة وصفط اللبن ومدينة عامر وعزبة حرب، الزيت هو كمان اتأثر بارتفاع الأسعار، الزجاجة اللتر كانت بـ8٫75 جنيه دلوقتى الزجاجة ما بتكملش لتر 800 مللى بـ8٫25 جنيه، الشاى هو كمان رفع 3 مرات فى الشهور الأخيرة، ربع كيلو الشاى بقى بـ11٫75 جنيه، الأول كان بـ9 جنيه، نبيع أيضاً لحوماً مجمدة ومفرومة وهامبورجر ودواجن مجمدة، وسعر كيلو الدواجن 20 جنيهاً، وسعر كيلو اللحمة المجمدة 46 جنيهاً، واللحمة الطازة بـ60 جنيهاً، لكن بتتباع فى المجمعات المطورة مش هنا».
يوضح الموظف الفرق بين أوضاع الجمعيات قبل 15 سنة والآن قائلاً: «الأول كان فيه دعم على كل السلع، دلوقتى مفيش، الشركة بتبيع كل شىء زى المحلات مع الفرق إن السلع ممكن تكون أرخص نص جنيه عندنا من البقال العادى، من ساعة ما نقلوا ملكية الجمعيات من وزارة التموين إلى وزارة الاستثمار والأسعار فيها غالية والسلع الاستراتيجية مش متوفرة، وكل علاقة وزارة التموين بنا حالياً الإشراف فقط ومراقبة الأسعار».
وليد: «عدم وجود الرز والسكر فى الجمعية يجبرنا على شرائهما من المحلات بأسعار مرتفعة».. وزوجته: «اشترينا للعيال شنط مستعملة»
ينشغل الموظف بالحديث مع سيدة تسأل عن موعد نزول السكر والأرز فيجيب الموظف: «بكرة إن شاء الله»، يواصل الحديث: «أكتر حاجة بتتعبنا فى شغلنا ده تصريحات المسئولين على التليفزيون لأنها تخالف الواقع والناس بتسمع وبتصدق وبتيجى تسألنا وتقول الوزير قال كل السلع موجودة فى المجمعات، نقول لهم مفيش حاجة من اللى قال عليها جات لحد دلوقتى، واحنا اللى فى وش المدفع، مثلاً بنلاقى ناس جاية تقول إن وزير التموين قال هنزل خرفان بالتقسيط على المجمعات، وده طبعاً ما بيحصلش ولا يمكن يحصل».
سعدية إبراهيم، سيدة ستينية، مقيمة بشارع عشماوى بمنطقة أبوقتادة، ترتدى حجاباً أبيض وجلباباً غامق اللون، وتصطحب معها طفلة صغيرة، غابت البسمة عن ملامح وجهها، وحل محلها علامات الضيق والغضب أثناء سؤالها عن وجود أرز أو سكر بالجمعية، تقول: «نجيب فلوس منين عشان نعرف ناكل ونشرب؟ إحنا كل يوم فى عذاب بسبب ارتفاع الأسعار، معاش جوزى 1400 جنيه، بندفع منهم إيجار وميه وكهربا، نروح فين؟ مالناش إلا ربنا».
تضيف السيدة بصوت متعب: «أنا خلفت 9 عيال كلهم اتجوزوا الحمد لله، والولد الأخير جوزته معايا فى الشقة عشان ارتفاع سعر شقق الإيجار الجديد، لكن ما استريحش فى البيت وطلع أخد شقة بـ500 جنيه بره، وعشان يقدر يمشّى نفسه ساب لى بنته دى اللى معايا دلوقتى بنربيها معانا عشان نرحمه شوية من مصاريفها، إحنا أول مرة نشوف الغلا ده».
سعدية: «أول مرة نشوف الغلا ده.. مفيش حد حاسس بينا ومالناش غير ربنا»
سيدة ثلاثينية تتدخل فى الحديث فجأة وتقول بصوت مرتفع: «الأنبوبة بقت بـ50 جنيه، فيه ناس هنا مش مدخلة غاز طبيعى وبتضطر تشترى أنابيب، الناس مش عارفين يعيشوا، يا ريت الحكومة ترحم الغلابة».
تعاود سعدية حديثها قائلة: «بنقبض المعاش يوم 11 فى الشهر، وبنخلصه يوم 25 من نفس الشهر، أنا عندى السكر وجوزى عنده السكر والضغط هو كمان، وأنا محتاجة أعمل عملية استئصال المرارة عشان عندى حصوات فيها، والله فيه ناس مش لاقية، يا ريت الريس يبص على الغلابة».
بعد نصف ساعة يحضر وليد أحمد عبدالله، 40 سنة، من كفر طهرمس بصفط اللبن بصحبة زوجته وأطفاله ليشترى بعض السلع من الجمعية عن طريق فرق نقاط الخبز. يخبره أحد الموظفين بصوت مرتفع: «مفيش سكر ورز»، يقول وليد صاحب الوجه الدائرى: «لدىّ 3 أبناء، اثنان منهم فى المدارس وواحدة صغيرة، بشتغل سواق، ودخلى ما بيزيدش عن 900 جنيه وأدفع إيجار 400 جنيه شهرياً، بالإضافة إلى فواتير المياه والكهرباء ومصروفات المدارس وملابس العيد، بحاول قدر المستطاع الاستفادة من بطاقة التموين وبشترى بفارق نقاط الخبز بعض السلع الأساسية، لكنها للأسف غير موجوده هنا أو فى أى مكان آخر».
تلتقط منه زوجته أطراف الحديث وتقول: «شنطة المدارس بـ100 جنيه وعشان كده اشترينا لعيالنا شنط مستعملة، كل حاجة بتغلى والغلابة مش قادرين يعيشوا أو يمشّوا نفسهم زى ما كان بيحصل الأول، والسلع الأساسية مش متوفرة فى المجمعات زى ما الحكومة بتقول فى التليفزيون، وبنضطر نروح المحلات اللى سعرها عالى، إحنا أول امبارح شربنا دورين شاى بس عشان نوفر فى السكر، اللى فى التليفزيون حاجة، واللى على أرض الواقع حاجة تانية، أيام حسنى مبارك كان فيه سرقة والناس كلها عارفة كده، لكن كنا عارفين نعيش ونصرف لحد سنة فاتت، الأسعار كلها تغيرت».
تزدحم الجمعية بالمواطنين ويقفون أمام الموظف الذى يصرف لهم البون، ثم يتجهون إلى موظف يصرف البضائع التى يختارونها، وبسبب قلة الاختيارات تنشب مشادات كلامية بين السيدات والموظف بعد عدولهن عن اختيار السلعة التى اتفقن على شرائها من نقود فارق نقاط الخبز، فجأة تصرخ سيدة خمسينية ترتدى نظارة طبية وتقول: «مش لاقيين ناكل، كيلو السكر بره بـ8 جنيه، مش عارفين حتى نشرب شاى».
سيد محمد، رجل أربعينى يرتدى جلباباً ونظارة طبية يقول: «لا أعتمد على تصريحات الوزراء إطلاقاً، من سنين طويلة ما بصدقهاش، لأنهم بيقولوا أى كلام وشعارات فقط، كل السلع سعرها زاد فى الفترة الأخيرة، وللأسف الأجور ما زادتش، ولا حتى يومية الصنايعية، كنت مبيض محارة وبعدين بطلت من 8 سنين وفاتح محل بقالة، دلوقتى الناس كلها بتشتكى من ارتفاع الأسعار لكن بيحاولوا يتحايلوا على الواقع من خلال أى طريقة عشان يعدوا يومهم، الحد الأدنى اللى ممكن الأسرة العادية تمشّى بيه حالها 2500 جنيه عشان تقدر تعيش، ده من غير مصاريف الجامعة أو تجهيز البنات، واللى معاه عيلين غير اللى معاه 3 أو 4».
بعد مرور نصف ساعة تحضر سامية على كامل، 63 سنة، إلى الجمعية، تستند على عكاز وتسير ببطء شديد، علامات المرض تظهر على وجهها وجسدها، سألت الوظف عن السكر والأرز والزيت فأجابها: «مفيش سكر ورز هييجوا بكرة»، تعود السيدة أدراجها وقد تملك منها التعب، تقول بصوت منخفض: «الحاجة غليت من حوالى 3 شهور كده، الطماطم والبطاطس والسكر والزيت والرز واللحمة، كل حاجة غليت مع بعضها، بقبض معاش جوزى 1400 جنيه وبيخلصوا بعد أول 10 أيام من الشهر، بجيب أدوية للمخ والأعصاب بـ700 جنيه فى الشهر، ده غير الإيجار والميه والكهرباء. أنا عندى عيال كلهم متجوزين، وأنا قاعدة لوحدى هنا فى أبوقتادة، عاوزة أقول لك إننا ما بناكلش اللحمة إلا كل شهر، يعنى ما قدرتش أجيب النهارده لحمة بلدى جبت لحمة راس، عيالى بيساعدونى وبيجيبوا لى الأكل كل أسبوع».
تنهمر الدموع من عين السيدة الستينية قبل أن تكمل بصوت حزين: «أنا بصرف كل علاجى من بره، الدكتور قال لى لو صرفتى علاج من التأمين هتموتى، أنا عملت عملية فى الغضروف فى مستشفى حكومى، دخلت وأنا بامشى، طلعت وأنا ما بقدرش أمشى».
محمد أبوشوشة، 62 سنة، اشتعل رأسه شيباً، يرتدى نظارة طبية، حضر إلى الجمعية الاستهلاكية بدراجته الهوائية أوقفها بجوار محل جزارة يجاور الجمعية، يقول بنبرة واضحة: «من ساعة الثورة الدنيا رايحة للأسوأ، الحكومة مش مقدّرة الناس المدعوكة، كيلو اللحمة بـ90 جنيه وللأسف مفيش شغل، أنا راجل أرزقى بشتغل حوالى 4 أو 5 أيام فى الشهر كله، المفروض أعمل عملية غضروف وميه بيضا على العين، لكن مش معايا فلوس أعملها، كل حاجة غليت، الكهرباء والميه، والزيت والسكر، بطاقة التموين الخاصة بى 3 أفراد، بتجيب ليا 3 زيت و4 رز و3 سكر، أنا قاعد بالإيجار القديم والحمد لله لو كنت قاعد فى جديد ماكنتش هقدر أعيش».
يضيف «أبوشوشة»: «بفضّل الابتعاد عن البيت أغلب الوقت تجنباً للمشاكل مع مراتى بسبب ضيق الحال وكثرة المصروفات، باخد بعضى واقعد على كرسى جنب القهوة، أحياناً ما بيكونش معانا تمن كوباية الشاى، وبأُحرج إن حد يعزمنى، عشان كده بقعد جنب القهوة من سكات، الناس بتروح تقعد على القهوة عشان تهرب من الواقع، قبل كده كنا بنروح نلعب طاولة ونضحك من القلب، لكن الحال تغير الآن ولو قعدنا مع بعض كل واحد بيشتكى للتانى حاله، ولو روّح البيت امراته هتنكد عليه».
يتوقف «أبوشوشة» عن الكلام قليلاً قبل أن يكمل: «الحكومة بتقول للناس استحملوا شوية عشان الإصلاحات الاقتصادية، يعنى نموت؟ سايبين الناس اللى بتقبض بالآلاف وعاوزين الجعانين يستحملوا، يعنى أنا راجل شغال بدراعى اليوم بيومه ومفيش شغل كمان وسنى معدى الـ60 سنة هستحمل إزاى؟ لو الوزرا ورئيس الحكومة يقدر يستحمل وما يقبضش وما يشربشى شاى أو ما ياكلش لحمة زيينا إحنا كمان هنستحمل».
تلتقط «أم حسن» أطراف الحديث من «أبوشوشة» وتقول بنبرة حادة ممزوجة بالغضب: «جوزى راجل أرزقى لو تعب مش هيلاقى شغل، وبيشتغل مبيض محارة رغم إن عمره 64 سنة، وابنى معاه بكالوريوس تجارة وما بيشتغلش ومتجوز وقاعد معانا فى نفس الشقة هو ومراته، هنجيب منين وهنعيش ازى؟ والسلع الرئيسية مش متوفرة فى الجمعية، وعشان ناكل بنضطر نشتريها من بره بالأسعار الغالية».
تشير السيدة إلى محل الجزارة الذى يجاور الجمعية وتقول: «نفسنا نجيب لنا كيلو لحمة بلدى، عشان ندوق الشوربة بتاعتها، لكن اللحمة المجمدة بدون أى طعم أو رائحة، العيل نفسه يشرب شوربة لكن اللحمة المستوردة مافيهاش أى رمق، إحنا شفنا صورة الولد الصغير اللى جرى على العربية وكان بيعض اللحمة ونفسه فى حتة، دى كانت بألف كلمة بس لو حد يفهم».
أما علاء الدين محمود، أحد أبناء أبوقتادة، فيقول: «لا يوجد حالياً سوى طبقتين فى مصر، طبقة غنية جداً وأخرى فقيرة جداً، لا يوجد رقابة على الأسعار اللى بتحرق جيوب المواطنين، والحد الأدنى الذى حددته الحكومة لا يكفى الناس، حالياً الجنيه ما بقاش له أى قيمة وما بيشتريش حاجة».