بينما تبكى مصرُ كلَّ يوم أبناءها الذين يسقطون بين شهيد وقتيل، وتئن من ألم الجراح التى أصابتها فى فلذات أكبادها، وتتوجع من الشلل الذى يسرى فى جسدها، تتعالى ضحكات شيطانية هستيرية يسعدها ما يجرى فى أم الدنيا.
أصبحت مصر ميدان معركة، واهمٌ من يظن أنها بسبب سياسات الرئيس أو دعاوى استحواذ الإخوان، بل إنى على يقين أنه لو كان على كرسى الرئاسة شخص آخر غير الدكتور محمد مرسى، لا يحظى بدعم جماعة كبيرة كالإخوان وتيارات إسلامية أخرى لكانت الخسائر أكثر فداحة، ولتردت الأوضاع أكثر وأكثر، لأنه لا يملك نفس القدرة على المقاومة والصمود، ولا الظهر الذى يسنده ويصد عنه.
المعركة أكبر من مرسى، وأطول من عمر الإخوان.. المعركة تخص مصر بتاريخها وشعبها وموقعها ودورها ووظيفتها وطموحاتها وآمالها، وآمال و(عشم) الأقربين فيها. لم يكن محمد على باشا من الإخوان، ولا أراد أخونة مصر ولا أسلمتها، ولا كان عربياً من الأساس، بل كان يملك مشروعاً فردياً نجح فى توظيف قدرات أمة وشعب لتحقيق مشروعه، فتكالبت عليه قوى العالم من الشرق والغرب لكسر أنفه، وإرغامه على التقوقع والانكفاء، وتسريح الجيش وتفكيك المصانع وإغلاق المدارس، وعلى أثر ذلك دخل النفوذ الغربى مصر ثم تبعه الاحتلال الإنجليزى العسكرى.
لكنا نغرق فى التفاصيل، ويسد الدخان الأفق أمامنا فلا نرى إلا تحت أرجلنا.. يعمينا التعصب، والغيرة (وهى شعور حقيقى موجود وإن سخر منه البعض)، عن رؤية العدو فنمسك بتلابيب ابن الوطن لنوسعه ضرباً وشتماً وسباً.. ثم ننتشى ونظن أننا كسبنا المعركة، ونغفل عن العدو المتربص بنا!
الحيل والدسائس والمؤامرات والمكائد، كلمات لها معناها ومغزاها، ومدلولها وتأثيرها، نجحت فى كثير من الأحيان فى تغيير مجرى التاريخ، أو على الأقل تركت آثارها البارزة فى مسيرته، وتاريخنا يشهد على ذلك؛ من عبدالله بن سبأ إلى جلوب باشا، وبينهما كثير، وبعدهما كثير. وأشد المكائد دهاءً ومكراً أن (يركب) صاحبُ المكيدة الطرفَ الذى يكيد له، ويسيطر على سلوكه، ويوجهه، بل يقوده نحو حتفه بينما يظن المسكين أنه يحقق أعظم إنجاز.
هناك أجهزة مخابرات قطعت شوطاً كبيراً واكتسبت خبرة واسعة فى أعمال السيطرة على الخصم وتوجيهه، أو دفعه فى مسارات معينة، وأظن أن أحداث 11 سبتمبر عام 2011 فى نيويورك جسدت هذه الخبرة، بشكل واضح، وبعض ما جرى فى ميادين مصر ليس ببعيد عن ذلك. ولا يكفى الارتكان إلى براءة الشباب، وطهارة الثورة، ونبل المقصد، فهذه وحدها لا تكفى لمنح شهادة حسن السير والسلوك، ولا تقى من الانحراف والانجراف، والوقوع فى مستنقع الفوضى والعنف والتخبط واللامعقول. تحتاج الثورة إلى «مدونة سلوك» أخلاقية يلتزم بها الثوار الحقيقيون، ويفتضح بمخالفتها غيرهم من الأدعياء.