حين أعادت المحكمة الدستورية العليا تعديلات قانونى مجلس الشعب ومباشرة الحقوق السياسية -وهما يشكلان معا الإطار القانونى الناظم للانتخابات البرلمانية- إلى مجلس الشورى لوجود أكثر من مخالفة دستورية، كنا مع درس بليغ من القضاء المصرى لمجلس تشريعى قدم المصالح الضيقة للفصيل المسيطر عليه على الالتزام بالمبادئ الدستورية والقانونية وقواعد العدالة وتكافؤ الفرص.
وكان يتعين على مجلس الشورى، المسيطر عليه من قبل جماعة الإخوان وحزبها وحفنة من القانونيين السائرين فى الركب، التنفيذ الكامل لقرار الدستورية العليا «بتعديل التعديلات» ثم مطالبة المحكمة بالنظر مجددا للتثبت من أن قرارها نفذ وأن المخالفات الدستورية أزيلت. إلا أن نزوع الإخوان لتقديم مصالحهم الضيقة على كافة الاعتبارات الأخرى وإصرارهم على إجراء الانتخابات البرلمانية فى أقرب وقت ممكن، رتبا معا تجديد ممارسة العبث التشريعى بمجلس الشورى.
وفى ساعات قليلة، وفى الخلفية الجوقة الصارخة بأن الدستورية فى خصومة سياسية مع الإخوان، أعلن المجلس أنه نفذ قرار الدستورية العليا، وبعدها بساعات قليلة خرجت أصوات القانونيين السائرين فى الركب مؤكدة (قولا واحدا) أن «تعديل التعديلات» لن يعاد للدستورية ومقدمة لتفسيرات واهية لحدود الرقابة السابقة وانتفاء الرقابة اللاحقة على قوانين الانتخابات، وبعدها بساعات قليلة أصدر رئيس الجمهورية قانونى مجلس الشعب ومباشرة الحقوق السياسية المعدلين وحدد الجدول الزمنى للانتخابات. هكذا دون أن يتثبت الرأى العام والمواطن الناخب، وعبر الجهة الوحيدة صاحبة الاختصاص وهى الدستورية العليا، من أن المخالفات أزيلت وأن المبادئ الدستورية والقانونية تم الالتزام الحقيقى بها.
وفى ساعات قليلة أيضاً، بدت على طريق النجاح اللعبة الإخوانية لجر مصر إلى انتخابات أساسها القانونى محل شك وفى بيئة مجتمعية غير مهيأة ودون توافق وطنى جاد حول قواعد العملية السياسية متمثلة فى إيقاف انتهاكات حقوق الإنسان وتعديلات الدستور والحكومة المحايدة وتعيين نائب عام جديد. فما إن بدأ قطار الانتخابات فى التحرك، حتى كان جموع الراكضين خلفه وبمعزل عن الشكوك الدستورية ومدى توافر ضمانات النزاهة يعلنون عزمهم خوض الانتخابات ويشرعون فى حملاتهم الانتخابية. وحين أعلنت شخصيا وغيرى من المعارضين ثم أعلنت جبهة الإنقاذ مقاطعة الانتخابات لاستمرار القواعد غير العادلة للعملية السياسية وعدم دستورية قانون الانتخابات وعدم توافر ضمانات النزاهة، هوجمنا جميعا فى أخف الأحوال كدعاة رفض وانسحاب لا يعلمون ماذا سيفعلون بعد المقاطعة وفى أقساها كخائفين من المنافسة الانتخابية ومساومين على المصلحة الوطنية.
إلا أن القضاء المصرى، هذه المرة ممثلا فى القضاء الإدارى، عاد وقدم درسا بليغا جديدا فى ضرورة التزام المبادئ الدستورية والقانونية والكف عن التحايل عليها وممارسة العبث التشريعى. أوقف القضاء الإدارى إجراء الانتخابات البرلمانية وأعاد تعديلات قانونى مجلس الشعب ومباشرة الحقوق السياسية إلى المحكمة الدستورية العليا لكى تتثبت الأخيرة من «التنفيذ الكامل لمقتضى قرارها». تحمل حيثيات حكم القضاء الإدارى شرحا بليغا لاختصاص المحكمة الدستورية العليا ولجوهر الرقابة السابقة والرقابة اللاحقة ولمسئولية رئيس الجمهورية حين يصدر القوانين، علّ الإخوان وقانونييهم المعينين ورئيس الجمهورية يدركون ضرورة الكف عن العبث التشريعى. يدلل حكم القضاء الإدارى على رجاحة موقف مقاطعى الانتخابات لغياب القواعد العادلة ومن بينها التثبت من دستورية قوانين الانتخابات، ويضع الراكضون خلف قطار الانتخابات وبغض النظر عن انحيازاتهم الأيديولوجية فى موقف أخلاقى وسياسى صعب للغاية.
إلا أن حكم القضاء الإدارى وتأجيل موعد الانتخابات البرلمانية المرتبط به يشكل أيضاً فرصة حقيقية لنا فى مصر. لو نجحت الأطراف السياسية والحزبية فى التفاوض بجدية للتوصل إلى إطار عام لإيقاف انتهاكات حقوق الإنسان ولتعديل الدستور وتغيير الحكومة والنائب العام مع التعهد بتنفيذ قرار الدستورية العليا الجديد بشأن قوانين الانتخابات دون تحايل (أو سلق)، فربما تجاوزت العملية السياسية مأزقها الراهن وخطر الانهيار وذهبت باتجاه بناء مؤسسات منتخبة شرعية غير مهددة فى وجودها.
التفاوض هو الأولوية الأولى الآن.