فى كلمة الأستاذ مكرم محمد أحمد عن أزمة الإعلام التى قالها أمام الحضور فى مؤتمر الشباب بشرم الشيخ، ركّز على ضرورة الالتزام بالمهنية وضرورة ضبط وتنظيم أداء القنوات الفضائية، مشيراً إلى أن هناك ميثاق شرف صحفياً ونقابة للصحفيين المحررين والكُتّاب فى الصحف السيارة، وهو ما تفتقده الفضائيات. وبالقطع لا خلاف على المهنية والالتزام بقواعد العمل الصحفى كأساس للحكم على ما يُنشر سواء من أخبار أو تقارير أو مقالات رأى أو تحقيقات أو باقى صنوف العمل الصحفى، وجزء كبير منها يتداخل مع صنوف البرامج الإخبارية والحوارية التى يتم بثها فى القنوات الفضائية، ومن هنا يأتى التشابه وتأتى أيضاً أهمية وجود ميثاق شرف إعلامى عام لكل العاملين فى هذا المجال.
ولا أتصور أن هناك خلافاً كبيراً على ما سبق قوله، لكن أتصور أيضاً أن الالتزام بالقواعد المهنية، رغم ضرورته القصوى فى حالتنا المصرية الراهنة، لا يكفى إطلاقاً لإصلاح أوضاع الحالة الإعلامية والصحفية فى مصر. فالأمر أكبر من مجرد إعادة تدريب الصحفيين والمحررين ومُعدى البرامج ومُقدميها بحيث يكونون أكثر مهنية وأكثر حرفية وأكثر شعوراً بالمسئولية المجتمعية، وأكبر كثيراً من استعادة المصداقية لدى القارئ كأساس لتدعيم رغبته فى شراء المنتج الصحفى أو متابعة المنتج الإعلامى، وكذلك أكبر كثيراً من رفع توزيع الصحف والمجلات أو زيادة نسبة المشاهدة للبرنامج أو للقناة الفضائية. ومن ينظر إلى أحوال المؤسسات الصحفية، سواء القومية أو الخاصة، وكذلك أوضاع القنوات الفضائية المختلفة، يجد أنها فى الأساس مؤسسة اقتصادية عليها أن تتدبر توازنها المالى من خلال أنشطتها المختلفة سواء الإعلامية أو الإعلانية أو الخدمات التى تقدمها للغير كالنقل والطباعة والتسويق وتنظيم المعارض والتعليم الجامعى والدخول فى مشروعات استثمارية مع الغير أو اعتماداً على الموارد الذاتية. وكل هذه الأنشطة هى التى تمول النشاط الإعلامى أو الصحفى الرئيسى للمؤسسة، أى الجريدة الأم أو القناة الأم، إضافة إلى الإصدارات الفرعية الأخرى فى صور مجلات أو جرائد متخصصة، أو القنوات الفرعية الأخرى بجانب القناة الأم.
وأستطيع القول إن النظر إلى الأبعاد الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية والصحفية يأتى ضعيفاً للغاية فى أى حديث عن إصلاح المنظومة الإعلامية والصحفية، وهذا بدوره جانب خطير ويُعد بمثابة قنبلة موقوتة ستؤدى إلى نتائج غير محمودة بالمرة فى مدى زمنى قصير للغاية. وحتى المشروعات التى طُرحت لقانون الإعلام الموحد تكاد تتجاهل هذا الأمر، اللهم إلا إشارات مبهمة لتسوية مبالغ الديون الهائلة بالنسبة لاتحاد الإذاعة والتليفزيون باعتباره ملكاً خالصاً للدولة. ومن الجائز طبعاً إحداث تسوية على الأوراق يبدو معها الأمر أفضل، ولكنها فى الواقع لن تؤدى إلى تغيير حقيقى. وتلك النوعية من الحلول الرمادية الخادعة النابعة من الانغماس فى رؤى تقليدية من شأنها أن تزيد من عمق الأزمة ولا تحلها أبداً. والوضع بالمنظور الاقتصادى للمؤسسات الصحفية على إطلاقها، الكبير منها أو المتوسط الحال، لا يختلف عن حال اتحاد الإذاعة والتليفزيون، فهناك ديون تزداد كل شهر، وهناك اعتماد متكرر على دعم الدولة من أجل الوفاء بالمرتبات والحوافز، وهناك ضرائب وتأمينات يصعب تسويتها، وفى بعض الحالات يستحيل تسويتها فى ضوء الأداء الاقتصادى لهذه المؤسسات، وهناك أصول يصعب تسويقها أو الاستفادة منها، وهناك أيضاً بنية أساسية تتهالك بفعل الزمن وبفعل الاستخدام ولا تتوافر الموارد المالية المناسبة لإصلاحها أو الحفاظ على كفاءتها المعتادة، وحالة أساطيل النقل وماكينات الطباعة التى تعود إلى حقبة الثمانينات فى كثير من المؤسسات خير دليل. وإذا كان البشر لا يجدون برامج التدريب المناسبة فكذلك الماكينات وأدوات النقل والمبانى لا تجد المبالغ الكافية للإصلاح والصيانة، وفى حال كهذا كيف نتصور أن الحل هو فى تعزيز المهنية وحسب؟
وبالقطع فإن البنية التشريعية الراهنة، وغالباً القانون الجديد، وفقاً للمشروع المتاح، لا يركز على البُعد الاقتصادى فى أداء المؤسسات الصحفية والإعلامية، ولا يطرح، لاسيما بالنسبة للإذاعة والتليفزيون أو المؤسسات الصحفية، حلولاً جذرية لأوضاعها الاقتصادية الصعبة، ولا يوجد سوى التفكير التقليدى ذاته مع ضبط بعض الجزئيات فى علاقة الهيئات الوطنية لكل من الصحافة والإعلام مع المؤسسات التابعة لها، وكذلك ضبط جزئيات محدودة فى علاقة مجلس الإدارة بالجمعية العمومية التى لم تتغير طريقة تشكيلها عما هو مُجرب من سنوات طويلة. والنتيجة المرجحة أنه لن يكون هناك تغير جذرى فى الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية المختلفة، بل امتداد للحالة نفسها مع بعض رتوش هامشية.
وبناء على خبرة عملية سابقة أعتقد بقوة أن تغييراً جذرياً فى الأوضاع الاقتصادية للمؤسسات الإعلامية والصحفية يتطلب تغييراً فى نمط الملكية، بمعنى مشاركة فى الملكية من خارج الدولة، بمعنى آخر مشاركة شعبية فى ملكية هذه المؤسسات يوضع لها ضوابط صارمة، كأن تحدد نسبة معينة للاكتتاب بعد تحديد قيمة الأصول المادية والمعنوية لكل مؤسسة على حدة، وأن يقتصر الاكتتاب من خلال طرح أسهم على العاملين فى المؤسسة ذاتها وليس من خارجها، وألا يُسمح ببيعها أو إعادة بيع الأسهم لأى طرف خارج هذه النسبة وفى حدود معينة لا تتجاوز مثلاً واحداً من الألف، وهو نظام معمول به فى مؤسسات إعلامية جبارة كـ«جوجل وفيس بوك»، وكذلك مؤسسات وشركات عالمية كـ«كاتربلر» وغيرها. ومعروف أن إفساح المجال أمام ملكية العاملين لا يهدف فقط لضخ موارد مالية جديدة تُعين على إصلاح الوضع الاقتصادى العام فى المؤسسة المعنية، بل أيضاً من شأنه أن يغيّر قواعد الإدارة والرقابة والمتابعة والمحاسبة فى المؤسسة، كما يغير أيضاً أسلوب العاملين أنفسهم فى التعامل مع مؤسستهم التى أصبحت ملكاً لهم، كما من شأنه أن يغير الدور الذى تقوم به الجمعية العمومية التى ستصبح جمعية مالكين وليس جمعية عمومية شرفية كما هو الوضع الراهن. وفى ظل وضع كهذا سيكون للمهنية شأن آخر، فلن تقتصر على أداء الجانب الصحفى أو الإعلامى فحسب، بل أيضاً على الجانب الإدارى والمالى والتسويقى والفنى.
وأخيراً، وللمرة الألف، فإن أزمة المؤسسات الصحفية والإعلامية تتطلب التفكير خارج الصندوق والبحث عن حلول غير تقليدية، ودون ذلك فلن يكون هناك تغيير حقيقى، مهما جاء أفراد جدد على قمة هذه المؤسسات.