(١) كان المستشار المأمون الهضيبى من أشد المتحمسين لإنشاء حزب باسم جماعة الإخوان.. وكان رأيه أن الحزب يجب أن يمثل الوعاء الذى يضم كل هياكل الجماعة وأقسامها ومجالات عملها؛ بمعنى أن يكون الحزب هو الجماعة والجماعة هى الحزب، وذلك توقياً لعدم الازدواجية التى تنشأ فى حالة ما إذا كان الحزب فرعاً من الجماعة أو قسماً من أقسامها من ناحية، وحتى تكتسب الجماعة -كتنظيم وحركة ودعوة وتربية وسياسة- المشروعية القانونية التى تمكنها من ممارسة كافة أنشطتها فى العلن ودون أية مضايقات أو ملاحقات من ناحية أخرى.. هذا بخلاف الرأى الذى كان يتبناه مصطفى مشهور، وهو استحالة تحويل الجماعة كلها إلى حزب، من منطلق أن الجماعة أعم وأشمل.. والمتأمل فى وجهتى نظر الرجلين لا يجد فى الحقيقة اختلافاً كبيراً، خاصة إذا اكتسبت الجماعة المشروعية القانونية، كأن تتحول إلى جمعية رسمية تابعة لوزارة التضامن الاجتماعى.. كان المستشار «الهضيبى» يشترط للمضى قدماً فى إنشاء الحزب أن يكون متضمناً لفكر ومنهاج ووسائل وأهداف الجماعة، وأن مسألة المنافسة على السلطة يمكن أن تمضى جنباً إلى جنب مع الوظائف الدعوية والتربوية، وإلا فلا.. بينما كان «مشهور» يرى أن النظام الحاكم حينذاك لا يمكن أن يسمح بذلك، بدعوى أن النظام الحزبى قائم على فصل الدعوى عن السياسى، وهو ما كان يرفضه مشهور وترفضه الجماعة.
(٢) وقد أقر مجلس الشورى العام للجماعة فكرة إنشاء الحزب عام ١٩٨٩، وتعزز هذا القرار خلال اجتماع المجلس فى يناير ١٩٩٥.. وقد فوض المجلس مكتب الإرشاد فى تحديد الوقت والظرف الملائمين للتقدم بإنشاء الحزب، والكيفية التى يمكن أن يكون عليها.. وأمام التصريحات التى كان يدلى بها الرئيس الأسبق حسنى مبارك من أنه لن يسمح بإنشاء حزب على أساس دينى، كان تقدير مكتب الإرشاد أن الوقت والظرف غير مناسبين، وأن عليه ألا يتخذ أية خطوة فى الاتجاه نحو إنشاء الحزب، وإلا كان بذلك يتحدى رئيس الدولة، وهو الموقف الذى لم تكن الجماعة تحب أن تضع نفسها فيه.. والحقيقة أن السلطة فى مصر آنذاك كانت تعتبر مجرد تفكير الإخوان فى إنشاء حزب خطاً أحمر من المحال أن يقتربوا منه، فضلاً عن أن يمسوه.. فحزب الإخوان -فى تصورها- حال تشكيله وقيامه والإعلان عنه يمكن أن يجمع أغلبية الشعب وراءه، ليس للرصيد الذى يتمتع به الإخوان، ولكن لضعف وهشاشة الأحزاب الموجودة وقتها.. وإذا حدث ذلك فسوف تتغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ محلياً وإقليمياً ودولياً، وهو ما يستحيل قبوله.. والحقيقة أن هذا التصور لم يكن صحيحاً ولا واقعياً لأسباب، منها أن الإخوان لم يكونوا مؤهلين بعد لقيادة الشعب، وأن الطريق أمامهم ما زال طويلاً وشاقاً، وعليهم أن يبذلوا الكثير فى بناء الجماعة من حيث الفكر الاستراتيجى والسياسى، والتخطيط، والتنمية، والدعوة، والتربية.. إلخ. ومنها أيضاً أن الظروف الإقليمية والدولية ليست مساعدة ولا مهيأة على الإطلاق، بل هى معاكسة ومضادة، وتستلزم وقتاً وجهداً -على الأقل- لتحييدها، ومنها كذلك حالة التردى والفوضى العامة التى يعانيها المجتمع المصرى فى مجالات وميادين شتى، خاصة فيما يتعلق بالثقافة والأخلاق والسلوك.. غير أن السلطة غالباً ما كانت تروج لهذه الفكرة بهدف إيجاد فزاعة لتخويف الغرب، حتى يختار مضطراً نار السلطة وليس جنة الإخوان.. والحقيقة أن الغرب لم يكن فى حاجة لمن يخيفه من الإخوان، بسبب موقفهم من الكيان الصهيونى من ناحية، ومعاداتهم للمشروع الغربى من ناحية ثانية، وهو حينما كان يقوم -أحياناً- بتوجيه الانتقادات للممارسات الديكتاتورية والقمعية للسلطة المصرية فى حق المعارضة بعامة والإخوان بخاصة، إنما كان يفعل ذلك من قبيل التظاهر (المفضوح) بالدفاع عن حق الشعوب فى الديمقراطية والحرية.
(٣) بعد خروجى من السجن فى يوليو ٢٠٠٠، بعد قضاء مدة المحكومية (٥ سنوات) التى حكمت بها المحكمة العسكرية العليا علىَّ وعلى آخرين، حضرت جلسة مكتب الإرشاد، وكانت برئاسة مصطفى مشهور المرشد العام آنذاك.. وقد وجدت الأعضاء ما زالوا يتناقشون فى قضية الحزب.. قلت: أظن أنه من غير المنطقى أن يتم النقاش حول علاقة الجماعة بالحزب المزمع إنشاؤه، قبل أن نجيب عن السؤال المهم، وهو هل الظرف الراهن مناسب لإنشاء الحزب أم لا؟ فإذا كان الظرف مناسباً، انتقلنا إلى مناقشة النقطة الثانية وهى كيف يكون شكل الحزب وعلاقته بالجماعة؟ أما إذا انتهينا إلى أن الظرف ليس مناسباً، فعلينا أن ندرس كيف يمكن أن نجعله مناسباً، مطلوب منا أن نعمل على تهيئة المناخ داخلياً (أى داخل الجماعة) وخارجياً (أى محلياً وإقليمياً ودولياً) على قبول فكرة إنشاء حزب للإخوان، وهذا يتطلب وضع خطة متكاملة، ربما على مدى ٥ سنوات، ويبدو أن الكلمة وجدت لها صدى وقبولاً فى نفوسهم، فقد قال أحمد حسانين لحظتها: إذن، ضع لنا هذه الخطة، وحين تنتهى منها اعرضها علينا.. وآمن بقية الأعضاء على ذلك، المهم أنى نشطت فى كتابة هذه الخطة، وجعلتها شغلى الشاغل، لدرجة أنى كنت أحتفظ بورقة فى جيبى لأدون فيها أى فكرة تأتينى، سواء كنت فى بيتى أو فى مكتبى أو فى القطار، وفى أحد الأيام (١٤/ ٥/ ٢٠٠١) كنت على لقاء مع مجموعة من الإخوان (٣٥ شخصاً) فى منزل أحدهم بإحدى قرى محافظة أسيوط، وكان اللقاء مرصوداً من قبل الأجهزة الأمنية، وما إن جلسنا حتى داهمت مباحث أمن الدولة اللقاء، وتم تفتيشى ذاتياً، حيث وجدت ورقة الخطة فى جيبى، وقُدمت ضمن الأحراز إلى نيابة أمن الدولة العليا، التى ظلت تحقق معى ٦ أيام كاملة، وكان من نتيجة ذلك أنى مكثت رهن الحبس الاحتياطى فى سجن مزرعة طرة مدة ١٥ شهراً، وأسبوعاً، ولذلك قصة طويلة سوف أتناولها حين يأتى وقتها.. (وللحديث بقية إن شاء الله تعالى).