شجرة الحياة
شجرة لم تمنح أغصانها البشر أجمل الأزهار وأشهى الثمار، لكنها منحتهم غذاء الروح والعقل الذى يظل نابضاً بالحياة..[FirstQuote]
فيا تُرى ما هذه الشجرة التى كان جذعها سبباً فى سعادة ملايين البشر فى كل أنحاء العالم؟
منذ أكثر من خمسمائة عام، فى مدينة بهولندا، وذات صباح مشرق جميل، خرج رجل عجوز اسمه «كوستر» يتنزه فى غابة قريبة من بيته، كان رجلاً محباً للطبيعة يجد سعادته فى التمتع بجمالها الرائع، لذلك حزن عندما وجد شجرة جميلة يانعة قطعها الحطاب ولم يترك منها إلا جذعاً صغيراً، جلس «كوستر» فوقه وتذكر أحفاده الثلاثة والهدية التى سيقدمها لهم حين يذهب لزيارتهم، وفجأة لمعت فى ذهنه الفكرة التى غيرت شكل الحياة، بسكين صغير نزع قشرة جذع الشجرة وعلى لحاء الشجرة حفر الأحرف الأولى من أسماء أحفاده. فى ذلك الزمن البعيد أصدقائى، لم تكن الطباعة قد عرفت بعد وكانت الكتب تنسخ باليد، فكان الكتاب الواحد يستغرق نسخه سنتين أو ثلاثاً.
أخذ «كوستر» الأحرف الجميلة التى نسخها وزخرفها لأحفاده لينمى فيهم حب القراءة وهو يتخيل كيف سيفرحون بها، ولفها فى قطعة من الجلد كان يحتفظ بها ليكتب عليها، ثم وضعها فى جيبه وذهب لزيارة أحفاده الصغار.. وهناك أخرج من جيبه قطعة الجلد، وكانت دهشته كبيرة، كانت الحروف قد طبعت عليها بلون أخضر جميل هو لون لحاء الشجرة الذى صنع منه الحروف، كيف حدث هذا؟ بحث «كوستر» وعرف أن جذع الشجرة يحمل الغذاء لكل الشجرة، ولذلك يكون رطباً دائماً، وعندما حفر عليه الأحرف كان ما يزال رطباً، فطبع على قطعة الجلد نفس أشكال الحروف عندما وضعها فى جيبه وضغط عليها.
تساءل «كوستر»: لماذا يجهد النساخون أنفسهم فى نسخ الكتاب ويعانون الجهد ويبذلون الوقت فى سبيل الحصول على نسخة واحدة من كتاب، يستمتع بها شخص واحد فقط دون ملايين الناس، لذلك كان اقتناء الكتب مقصوراً على الأغنياء فقط؟ فلماذا لا يستفيد من الكتب كل الناس؟
فكر «كوستر» أنه إذا صنع أحرفاً من الخشب كالأحرف التى حفرها فى لحاء الشجر، وغمسها فى الحبر لاستطاع أن يطبع مئات النسخ من الكتب، فتصبح فى متناول كل الناس، ولن يكلفه ذلك إلا جهد حفر اللوحة الخشبية التى تحتوى على كلمات الكتاب.
بدأ «كوستر» فى تنفيذ مشروعه بحماس، فحفر فى قطعة الخشب كلمات بسيطة وبللها بالحبر وطبعها، فتركت علامات تشبه الكلمات، وتأكد أنه يمكن بعد عدة محاولات أن يطبع الكتب بهذه الطريقة المدهشة، وبنفس الجهد والوقت يستطيع أن يحصل على مئات الكتب. وذات يوم زاره صديق لابنه، فعرض «كوستر» عليه فكرته الجديدة، ورحب بها جداً الصديق، الذى كان الشاب الذكى الألمانى الجنسية «جون جوتنبرج»، فتحمس للفكرة لكنه لم يقتنع بعملية نحت الحروف وطبعها باليد حرفاً حرفاً، أو كلمة كلمة، بل فكر فى صنع آلة تطبع الكتب بطريقة أسرع.
عاد «جوتنبرج» لألمانيا، ولم ينسَ لقاءه بوالد صديقه الذى غيّر وجه البشرية فيما بعد، وراح يفكر فى الآلة التى تمكنه من طباعة الكتب، فيستطيع بنفس الجهد أن يطبع مئات الكتب بدلاً من كتاب واحد.. وبدأت رحلته مع الطباعة.
وفى عام 1420م، ظهر للنور أول كتاب مطبوع، عن لعبة الشطرنج، يقع فى ستين صفحة. وتحمس لفكرة «جوتنبرج» صديقان من أصدقائه شاركاه حلمه، وكانت فرحتهم لا حدود لها بظهور أول كتاب مطبوع فى العالم فى القرن الخامس عشر، تدافع الناس لشرائه.. ولم يكتفِ «جوتنبرج» بنجاح تجربته فى صنع أول آلة للطباعة، بل أخذ يطورها عندما اكتشف أن الحروف من الخشب إذا تشبعت بالحبر تشققت، وبعد محاولات عديدة وتجارب باهظة التكاليف، نجح فى تكوين خليط من معدنى الرصاص والقصدير، صنع منه الحروف بنجاح. ولم يقف جهد «جوتنبرج» العظيم عند هذا الحد، فصمم آلة ليطبع هذه الحروف عليها، وأسس مطبعة عظيمة طبعت مئات الكتب التى حققت حلمه وحلم «كوستر»، وكانت البداية جذع شجرة صغير أضاء للبشر الطريق وغيَّر وجه الحياة.