موقف مؤسف للغاية، ذلك الذى اتخذته الإدارة المصرية، بطرح مشروع قرار على مجلس الأمن لوقف الاستيطان الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية، ثم سحبه، فى وقت بادرت دول أربع أخرى إلى تبنيه، وطرحته فى المجلس لتؤيده مصر. إشارات عديدة تقول إن مصر استجابت لتوجيهات أمريكية، بعد تدخل ترامب لدى الإدارة عندنا، للعدول عن طرح المشروع. طبعاً استغلت بعض الأطراف العربية المتخاصمة مع مصر الموقف، وأخذت وسائل إعلامها تتحدث عن جنوح مصر إلى البعد عن التعبير عن قضايا القومية العربية داخل مجلس الأمن، رغم أنها الممثل الشرعى للعرب حالياً فى هذا المجلس.
عندما تغيب الحسابات تكثر السقطات، ومن الواضح أن القرار المصرى بتقديم هذا المشروع، لم يخضع لدراسة كافية. صانعو هذا القرار لم يأخذوا فى الحسبان، إمكانية ممارسة ضغوط عليهم، يمكن أن تؤدى بهم إلى العدول عنه، لتظهر مصر بمظهر لا يليق بها، ولا بعطائها التاريخى للقضية الفلسطينية، ولا انحيازها المعروف لقضايا الأمة العربية. مشروع القرار لم يخضع للحسابات الكافية، وبدا -كما حدثتك قبل بضعة أيام- وكأنه شكل جديد من أشكال الأداء التليفزيونى، الذى أدمنته «الخارجية». عندما أعلنت مصر عن هذا المشروع، قوبل الأمر بـ«هليلة» إعلامية واضحة. وحقيقة الأمر أنه كان يستحقها، فالقطاعات الأكبر والأوفر من أبناء الشعب المصرى لم تزل ترى فى إسرائيل عدواً تاريخياً لها، وترى أن مصر أولى بالقضية الفلسطينية من غيرها، وتؤمن بأن العلاقة بين ما يحدث فى مصر وما يجرى فى فلسطين علاقة أساسية، والذاكرة المصرية لم تنس بعد أن قيام دولة إسرائيل على أنقاض دولة فلسطين كان من الأسباب المباشرة والأساسية التى أدت إلى قيام ثورة يوليو 1952، بل يمكننا القول بضمير مستريح إن فكرة الثورة ولدت فى ذهن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، خلال حرب 1948. انطلاقاً من هذه العوامل كان من الطبيعى أن يحظى الإعلان عن المشروع المصرى لوقف الاستيطان الإسرائيلى على الأراضى المحتلة بأعلى درجات الترحيب، والأمل فى دور أكبر لمصر على مستوى الإقليم العربى، خصوصاً بعد التوتر الحادث فى علاقة مصر بالخليج.
ضعف صناع القرار الخارجى فى علم «الحساب» حوّل الأمل إلى حالة إحباط شعبى، وقد دعم من الإحساس بالإحباط خطاب إعلامى راج عبر السنوات الماضية يتحدث عن مقاومة السلطة فى مصر لمؤامرة أمريكية على البلاد، تقف من ورائها إسرائيل، فإذا بأحاديث جديدة تقول إن مصر عدلت عن مشروع قرار وقف الاستيطان بضغوط من هذين الطرفين، بل وأبرز البعض العقوبات التى أنزلتها إسرائيل ببعض الدول التى شاركت فى تقديم المشروع إلى مجلس الأمن، كما حدث مع دولة «السنغال». لقد أزعج هذا الأداء الكثير من المصريين، وأخذ جلهم يتحدث عن طبيعة الأداء الخارجى لمصر، وتساءلوا كيف تعطى السلطة -أى سلطة- الفرصة لخصومها كى ينالوا منها فى ملف شعبى شديد الحساسية، مثل ملف القضية الفلسطينية. نتعشم أن يتعلم صناع القرار من هذه التجربة، ويستوعبوا أن العمل السياسى الخارجى لا بد أن يحكمه عدد من القواعد، من بينها: أن يسبق التفكير التدبير، والصمت المتأمل الكلام المتعجل، وحسابات النتائج الإعلان عن القرار.