100 دقيقة من رام الله إلى «مدينة الرب»: حواجز ومستعمرات وطرق التفافية.. ومستوطنون يحاصرون المدن والقرى
أطفال فلسطينيون يلهون بالشارع فى ظل أزمة اقتصادية خانقة
على أطراف مدينة رام الله، استوقفنا الجندى الإسرائيلى على حاجز «بيت إيل»، ليتأكد أن هوية السائق الفلسطينى المرافق لنا تسمح له بالمرور على الطريق السريع من رام الله إلى بيت لحم، وبحسرة قال السائق عاطف: «هناك هويات يُمنع أصحابها من المرور على هذا الطريق، الذى يمر عليه المستوطنون بحرية تامة، وأحياناً يتم منعنا لمجرد رغبة الحارس فى إذلالنا».
بهدوء، اضطر السائق إلى الانصياع للأوامر، وقال: «لا يمكنك الخروج من رام الله أو دخولها دون العبور على هذه الحواجز، وعلى هذا الحاجز تحديداً استشهد العديد من الشباب»، ثم نظر إلى اليسار قليلاً، وأشار إلى قرية فلسطينية قسمتها إحدى المستوطنات إلى جزأين، كما فتتت بيوتها: «هذه القرية اسمها بيتين، لكن تغير مدخلها، ليبعد مسافة 15 كيلومتراً، بهدف إفساح المجال لإقامة الحاجز من ناحية، وشق طريق مختصر للمستوطنة من ناحية أخرى».
الحواجز الإسرائيلية تحاصر رام الله.. والجنود يمنعون الفلسطينيين من المرور على الطرق إلا بموافقة أمنية
أخيراً، سمح لنا الجندى الإسرائيلى بالمرور، مستخدماً إشارة متعالية، وعندها انطلق السائق مطلقاً كلمات غاضبة، بدت لى كأنما يسب بها الحال الذى وصلت إليه بلاده المغتصبة: «أحياناً يتركوننا بالساعات، وبعدها يشيرون لنا بأن نعود من حيث أتينا، تصور أن تحرم من المرور على أرضك ووطنك».
وبعد دقائق قليلة من الخروج إلى طريق «رام الله- بيت لحم»، أشار السائق بغضب إلى جهة اليمين، وقال: «انظر.. هذه مستوطنة ساجوت»، كانت المبانى زاهية البياض، وأسقفها مزينة بالقرميد الأحمر، ما أضفى جمالاً على التبة التى بينت عليها المستوطنة، ثم أكمل «عاطف»: «الإسرائيليون يبنون مستعمراتهم دائماً فوق قمم الجبال وأعلى التلال، حيث يعتقدون أن الله أمرهم بأن يسكنوا الجبال فى يهودا والسامرة، الضفة الغربية، التى يعتقدون أنها جزء من أرض الميعاد اليهودى، كما أن البناء على المرتفعات يمنحهم شعوراً أكبر بالأمان».
ولم تمضِ سوى أمتار قليلة، حتى أشار عاطف إلى مستوطنة أخرى على الجهة الأخرى من الطريق، تدعى «بنيامين»، قائلاً: «خنقتنا هذه المستعمرات، وحاصرت كل المدن الفلسطينية»، وأضاف شارحاً: «لا تجد مدينة فلسطينية واحدة فى الضفة الغربية غير محاصرة بسلسلة من المستعمرات الصهيونية، التى يسكنها حثالة الصهاينة، وأكثرهم عنفاً».
وأكمل «عاطف»: «يستغرق الطريق إلى بيت لحم 100 دقيقة تقريباً، رغم أن المسافة بين المدينتين يمكن قطعها خلال مدة لا تزيد على 20 دقيقة، وهى الفترة التى كانت تستغرقها الرحلة بالسيارة قبل أن تحاصرنا هذه المستعمرات، وقبل أن يسرقوا منا القدس، ويحاصرونا بهذا الجدار الخانق، الذى ارتفعت جدرانه لتحجب بلادنا عنا».
شكل جدار الفصل العنصرى واحدة من أشد صور الاحتلال بشاعة فى الضفة الغربية، فالبناء الشاهق يمزق الأراضى الفلسطينية، ويحول المدن إلى مناطق معزولة عن بعضها، منذ أن بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلى بناءه فى يونيو 2002، ضمن سياسة الفصل أحادية الجانب بين إسرائيل والأراضى المحتلة، بهدف خلق منطقة عازلة فى الجزء الغربى من الضفة الغربية، والتى تمتد من الشمال إلى الجنوب، مغتصبة أكثر الأراضى الزراعية خصوبة، وعازلة التجمعات الفلسطينية فى صورة كانتونات، ما يقوض التكامل الإقليمى بين القرى والمدن الفلسطينية، ويسمح لإسرائيل بالسيطرة على الموارد الطبيعية فى الضفة، وضمها إلى المستوطنات.
الحاج «وسيم»: الأوضاع الاقتصادية اصبحت صعبة والحال يتأخر يوماً بعد يوم والقدس تبتعد كل يوم آلاف الأمتار
وحسب دراسة أعدها مركز «أريج» فى مدينة القدس المحتلة، «يأخذ الجدار العازل أحد شكلين، الأول هو السائد فى معظم المناطق التى يخترقها الجدار، ويعد الأسوأ، ويتكون من سياج صلب ذى طبقتين بعرض يتراوح بين 40 و100 متر، ويحتوى على أسلاك شائكة، وخنادق، وطرق عسكرية، ومسارات لكشف آثار الأقدام، بالإضافة إلى سياج معدنى مكهرب بارتفاع يتراوح بين 4 و5 أمتار، مع تحصينه بكاميرات مراقبة إلكترونية».
أما الشكل الثانى للجدار العازل، فهو السائد فى المناطق العمرانية القريبة من خط الهدنة «الأخضر»، ويتكون من قواطع أسمنتية بعرض يتراوح بين 30 و40 متراً، وارتفاع يتراوح بين 8 و12 متراً، وتتوسطه أبراج مراقبة عسكرية، يفصل بين كل منها 250 متراً، ويمتد جدار العزل العنصرى لمسافة 774 كيلومتراً، من شمال الضفة الغربية إلى جنوبها، ومنه 116 كيلومتراً فقط تقع على خط الهدنة، أى ما يمثل 15% من الطول الكلى للجدار.
المتوقع أن يؤدى الجدار، عند استكمال البناء، إلى عزل مساحة 733 كيلومتراً مربعاً من الأراضى الفلسطينية، أى ما نسبته 13% من المساحة الكلية للضفة الغربية، وإبعادها لصالح إسرائيل، كما أن الجدار سيضم 107 مستوطنات إسرائيلية، يسكنها ما يزيد على 80% من تعداد المستوطنين المقيمين فى الضفة الغربية، فيما سيعزل أكثر من 66 تجمعاً فلسطينياً، يسكن فيها ما يزيد على 320 ألف فلسطينى، منها 33 تجمعاً فى مدينة القدس.
وتشمل الأراضى الفلسطينية التى سيعزلها الجدار آلاف الدونمات من الأراضى الزراعية، ومناطق الرعى والغابات، والمناطق المفتوحة المخصصة للتوسع العمرانى الفلسطينى فى المستقبل، بالإضافة إلى مساحات عمرانية فلسطينية أخرى.
عبر السائق الفلسطينى مسرعاً قرب الجدار الأصم الذى حوله الفلسطينيون إلى لوحات شاهدة على المقاومة، ليصبح نافذة تحمل صرخاتهم إلى العالم، وعند الوصول إلى طريق النار المخيف، الذى يتلوى كالأفعى بين الجبال والمرتفعات، هدأ السائق الشاب من سرعة سيارته فجأة، نظراً للاقتراب من حافة الطريق الضيق، بالإضافة إلى الانحدارات المفاجئة له، وعندما لاحظ «عاطف» توترى قال مازحاً: «الطريق مخيف»، إلا أننى لم أعلق، حيث تسمرت عيناى على الحافة القريبة، والتى ترتفع فوق وادٍ عميق.
هدأ السائق سرعته أكثر، وقال متململاً: «أوف، إنه الكونتيلا»، فنظرت إليه مستفهماً، فأوضح: «هذا هو أخطر الحواجز فى الضفة، وأصعبها على الإطلاق، حيث وضعه الإسرائيليون فى منتصف الضفة بين الجبال، لاستخدامه فى فصل شمال الضفة عن جنوبها إذا أرادوا، وكثيراً ما يفعلون»، وعلى مسافة أمتار قليلة من الحاجز، أوقف الشاب السيارة، وقال: «لا يسمح لنا بالاقتراب من الحاجز إلا عند تلقى إشارة من الجندى».
وبعد سلسلة من الإجراءات الروتينية المحفوظة، مررنا بإشارة متغطرسة من جندى «أفريقى الأصل»، بعدما أشهر السلاح فى وجوهنا، ثم أكمل السائق طريقه بسرعة أقل، مشيراً إلى طريق ترابى منحدر بشكل مخيف نحو وادٍ بعيد، يصل فى نهايته إلى طريق أسفلتى على الجهة المقابلة: «انظر.. الحاجة أم الاختراع، هذا طريق التفافى صنعناه لنعبر منه بين الجبال، فى حال أغلقوا الحاجز، صحيح هى طرق ترابية، ومدقات شديدة الخطورة، لكنها السبيل الوحيدة أمامنا عند إغلاق الكونتيلا». بعد كيلومترين من الحاجز المخيف واجهتنا لافتة حمراء كبيرة على يمين طريق فرعى كتبت باللغات الثلاث العبرية والعربية والإنجليزية، تشير إلى أن هذا الطريق خاص بالعرب ويدخل إلى مناطق فلسطينية عربية، اللافتة التى كتبت لتحذير المستوطنين الصهاينة من دخول المناطق العربية، كانت مثل الخط الفاصل بين عالمين، كانت بداية لطريق غير ممهد بشكل جيد، كنا وكأننا خرجنا من طريق الحرير إلى مدق بدوى فى الجاهلية، ورغم أن الطريق ممهد بطبقات رقيقة من الأسفلت الأسود فإنه لا يرقى أبداً لمستوى الطرق الرئيسية التى يسير عليها المغتصبون الصهاينة: «هذا حالنا، وهذه بلادنا»، قالها السائق الغاضب وصمت ليترك لى المجال لأرى كم الإهمال فى القرى الفلسطينية الفقيرة: «يمنع عنا الإسرائيليون كل مصادر الدخل ويصادرون أموال الضرائب والجمارك ويحاولون بكل السبل خنقنا اقتصادياً فى ظل تراخى وإهمال عربى لنا»، قال الشاب الغاضب وتمتم هامساً: «تركونا نقاوم وحدنا».
جدار الفصل العنصرى حاصر البيوت وكسر سترها وهتك عرض أهلها.. ويتكون من سياج صلب ذى طبقتين بعرض 40 إلى 100 متر يضم أسلاكاً شائكة وخنادق وأبراج مراقبة عسكرية وسياجاً معدنياً مكهرباً
على تبة مرتفعة أمام قرية العبيدية على أطراف مدينة بيت لحم وبجوار دير ابن عبيد الأثرى وقف عاطف الشاب الفلسطينى ينظر شارداً نحو أولى القبلتين.. أشعل الشاب الفلسطينى سيجارة وراء الأخرى ونظر متأملاً قبة الصخرة البادية من بعيد، كانت القبة الصفراء تلمع باستحياء تحت أشعة شمس تقاتل لتخترق سحباً غامقة وكأنها ترسم المشهد بحذافيره، وكأنها قررت مشاركة الاحتلال فى معاقبة الشاب بمنعه من زيارة القدس أو حتى رؤية أسوارها.
«منذ 15 عاماً لم أدخل القدس»، قال الشاب البالغ من العمر 34 عاماً: «لم يسمحوا لى أبداً رغم الكثير من الطلبات التى قدمتها، لذا آتى هنا لأملى عينى منها» قالها الشاب المتحمس ونظر بعيداً نحو الفراغ الواسع بين مكاننا والمسجد الأقصى، قال الشاب متحمساً: «انظر.. هذه قبة الصخرة وهذه مئذنة الأقصى وهذا السور.. هل تراها؟». نظرت فلم أرَ شيئاً، كان الضباب كثيفاً وأشعة الشمس تجاهد لتخترق السحب لتصل إلى القبة اللامعة ورغم ذلك لم أرَها، لاحظ الشاب أنى لا أرى شيئاً؛ قال، مشيراً: «ركز هناك القبة الصفراء، انظر لأسفل هذه بناية المسجد، انظر سترى أسوار القدس العتيقة»، نظر إلىّ راجياً «انظر لها ستراها هناك»، كان الضباب يحجب كل شىء لكن «عاطف» كان يرى القدس بقلبه، كان يشم ريحها، يتنفس هواءها، تحجرت عينا الشاب نحو مدينته الأسيرة، سحب نفساً عميقاً من سيجارته ولم يخرجه من صدره المختنق.
«أين أنتم.. أين العرب؟!»، قالها الحاج وسيم، بائع البوظة فى بيت لحم، شاكياً الأحوال: «البلاد ضاعت والحصار علينا اشتد ونحن وحدنا، لا نسمع غير كلمات المقاومة والصمود وبيانات الشجب والإدانة، هذا فقط ما جنيناه من العرب»، قال «الختيار» الفلسطينى ذو الوجه الأحمر والأنف الكبير غاضباً متبرماً من وضع أصاب كل الشعب الفلسطينى بحالة من الملل والتملل: «الأوضاع الاقتصادية صارت صعبة والحال يتأخر يوماً بعد يوم، والقدس تبتعد كل يوم ألف متر ومتر ولا أحد يهتم، وكل مشغول بحاله، وغداً ستندمون يا عرب»، قالها الختيار الغاضب وانصرف إلى زبون آخر يتلمس منه بعضاً من الرزق يسد به رمق أسرته الكبيرة المكونة من 11 فرداً بين ابن وحفيد يسكنون بيتاً بجوار الجدار العازل الذى خنق كل شىء فى مدينة المسيح.
فى «بيت لحم»، دون كل المدن الفلسطينية، ترى الجدار واقعاً أليماً مثل سكين حاد قسم بلدة الرب ومزقها وأحاط البيوت وكسر سترها وهتك عرض أهلها.
كانت السماء تمطر وكأنها غاضبة مما يعانى منه سكان مدينة الرب، انطلق نحوى المرافق الأمنى الذى رافقنى من «رام الله» طالباً منى الابتعاد عن الجدار والتوقف عن التصوير ومغادرة المكان، نظر المرافق الأمنى نحو برج للحراسة أعلى جدار الفصل العنصرى قائلاً: «يمكن أن يطلق عليك النار»، نظرت مستغرباً: «لم أفعل أى شىء سوى أنى ألتقط الصور»، قال الشاب: «هذا مبرر كافٍ للتصويب نحوك»، ركبنا السيارة وانطلقنا نحو كنسية المهد حيث وُلد السيد المسيح، شرح لى الشاب: «هنا الدم الفلسطينى رخيص والقتل لأهون الأسباب، هم لا يكترثون لدمائنا ولا يهتمون من قتلوا، ربما لو عرف الجندى أنك مصرى فلن يصوب نحوك لكنه لا يعرف ويمكنه أن يتعامل معك وكأنك فلسطينى فيقتلك».
صلوات وتضرعات، دموع تذرف، وأكف ترتفع ضراعة إلى رب الكون تطلب صفحاً وغفراناً، بضع سلمات تهبط عليها نازلاً إلى حيث وُلد المسيح، حيث السكينة تلف المكان وصوت الصمت لا يخترقه إلا تمتمة الداعين همساً، هنا ولد المسيح (عليه السلام): «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة»، زخارف وأيقونات، شموع وعبرات، قس باسم بملابسه السوداء، بخور ينطلق فى الأجواء، إنها كنيسة المهد، مئات المصلين من كل أرجاء الأرض، ومن كل الديانات، هنا لا تعرف المسلم من المسيحى الكل جاء فى محبة الرب، الدعوات تنطلق، وتلهج الألسنة بالترانيم، ترانيم السماء من كل الديانات.
غادرت كنيسة المهد متمتماً: «سلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً».. وغادرت بيت لحم عائداً إلى رام الله مستغرقاً 100 دقيقة جديدة ومخترقاً للحواجز، ماراً بعشرات المستوطنات التى شوهت وجه الأرض.
-انتهاكات «الاحتلال» فبراير 2016:
*هدم ما يقرب من 24 منزلاً ومنشأة، فى منطقة «طاروسة» وتضرر 103 أفراد منهم 43 طفلاً.
*إزالة عدد من الورش الصناعية والتجارية فى قرية «نعلين»، يستفيد منها ما يزيد على 25 عائلة فلسطينية كمصدر دخل لتلك العائلات.
*اقتلاع 120 شجرة زيتون فى منطقة «واد قانا»، منها 80 شجرة تمت زراعتها قبل 5 سنوات بدعم من وزارة الزراعة الفلسطينية، و40 شجرة تم زراعتها خلال بداية العام.
*هدم واستهداف مساكن أنشأها الاتحاد الأوروبى لإيواء الفلسطينيين، فى منطقة «خلة خضر»، حيث طال الاستهداف هدم 11 خيمة سكنية و8 خيام لتربية الأغنام بالإضافة إلى مجمع زراعى.
*اقتحم المستوطنون الإسرائيليون باحات المسجد الأقصى ما يقرب من 12 مرة، وفى كل مرة تصدى لهم المصلون والمعتكفون فى المسجد مرددين صيحات «الله أكبر».