هناك.. على بعد تسعين كيلومتراً من العاصمة العريقة روما.. تقع تلك الكنيسة التى يعود تاريخ بنائها للقرن الثالث الميلادى.. يميزها تلك الكميات الكبيرة من الخضرة غير المبررة التى تحيط بها.. هناك يقطن جثمان القديس «فالانتاين».. ذلك القديس الذى لم يكن يعرف أن اسمه سيصير رمزاً للحب حتى هذه اللحظة.. وأن كنيسته التى بنيت فوق جثمانه الممتلئ ببقايا التعذيب الرومانى الشرس.. ستحظى بطابع يميزها عن كل الكنائس التى تزخر بها العاصمة الرومانية العتيقة.. فهى تمتلئ بالورود الحمراء طوال العام.. ويرتادها السائحون من كل أنحاء العالم.. ليلقوا إليها بالوردة الشهيرة.. لينالوا بركة القديس الرمز.. للزواج ممن يحبون!
القصة تعود إلى القرن الثانى الميلادى.. حين كان الاضطهاد الرومانى للمسيحية على أشده.. حين قرر الإمبراطور الرومانى وقتها منع الجنود من الزواج.. بحجة أن الزواج يؤثر على كفاءتهم القتالية.. فكان أن وقف القديس فالانتاين ضده علناً.. وأعلن أن هذا القرار ضد الإرادة الإلهية.. فسنة الحياة هى الزواج.. فأمر الإمبراطور بالقبض عليه وتعذيبه.. ثم قتله.. فصارت ذكرى مقتله عيداً للحب عبر العصور.. بل واقترن اسمه بالحب ذاته.. حتى إن كثيرين يظنون أن الفالانتاين يعنى الحب بلغة ما!!
لا أعتقد أن أحداً ممن يبتاعون القلوب الحمراء أو يقصدون المنتزهات مع من يعشقون يعرف أنه يحتفل مع شريكه بذكرى مقتل أحدهم!! إنه الموروث التاريخى الذى يتمكن فى معظم الأحوال أن يدمر منظورك الشخصى للعيد أو المناسبة!.. والمرجعية التاريخية التى تتعجب من تحولها عبر العصور حتى تصل إلى ما آلت إليه!! لقد تحول عيد «القديس فالانتاين» الذى يرمز إلى الحب المقترن بالزواج تحديداً.. والعفة التى تنظمها الشريعة الإلهية إلى عيد ابتذل فيه المحتفلون كل معانى الحب السامية.. واختصره العشاق فى وردة حمراء صناعية.. تفوح منها رائحة زائفة لعطر رخيص! الطريف أن الأمر غربى بالكامل.. بل ويعود لعصر الإمبراطورية الرومانية التى لا نعرف الكثير عن تاريخها من الأساس.. ولكننا تبنينا ذلك العيد تحديداً لسبب لا أعرفه.. بل وتمكنا من ابتذال المقصد منه بشكل مخجل.. ربما حتى لأصحابه الأصليين! لم يفكر أحد فى تحويل العيد -أو ذكرى مقتل ذلك القديس الإيطالى إن صح التعبير- إلى مناسبة أكثر قيمة من مجرد طرفة مبتذلة.. أو فرصة لزيادة ربح المنتزهات الليلية على ضفاف النيل.. كان يمكن أن تصبح الذكرى فرصة طيبة لاستحضار السلام المجتمعى.. والحب بمفهومه الأكثر شمولاً.. الذى يحمل حب الأسرة والوطن والأهل.. كان يمكن أن يتحول العيد إلى مناسبة جيدة.. يجتمع فيها شتات المجتمع الذى فرقته السياسة بألاعيبها القذرة.. ومؤامرات الجماعة التى تبحث عن السلطة على أنقاض أبناء الوطن!
لقد أعلنت وزارة الداخلية منذ أيام عن إطلاق مبادرة أسبوع الانضباط.. لا أعرف الهدف منها تحديداً.. فتطبيق القانون وحده كفيل بتحقيق الانضباط بصورة كاملة.. لم لا يصبح الفالانتاين يوماً لحب الوطن؟!
لم لا نطلق مبادرة جديدة.. أن يصبح شهر فبراير بأكمله هو شهر لحب الجميع.. لنبذ الخلاف الذى تأصل فى وجداننا دون أساس أو دليل.. لم لا نستفيد من العيد.. بأن نمصره بمفهومنا وقيمنا؟! نحتاج أن نستحضر روح الذكرى بصورة أفضل.. نحتاج عيداً للحب يحمل قيم الحق والخير.. والجمال.. نحتاج حباً أكثر قيمة.. أو أقيم وزناً!