لكن الدكتور محمود إسماعيل وبعد أن أكد ضرورة الترابط بين دراسة التراث ودراسة تاريخه ليكون المجدد قائماً بدور «المؤرخ - المفكر» يقدم لنا مفتاحاً جديداً لننفتح بفكرنا الإسلامى على روح العصر ونتجاوب معه، وهو التخلى عن الفكرة المراوغة وغير المجدية بالحديث المكرر عن «تجديد الفكر الدينى» والأخذ مأخذ الجد بفكرة «تجديد الفقه». وفى نفس الوقت النظر فى تاريخ هذا الفقه بدراسة نشأته وازدهاره ثم اضمحلاله فانهياره، ويقول بضرورة «إثبات أن التراث الفقهى وإن تعلق بالشريعة الإسلامية، فإنه نتاج اجتهادات رجال أصابوا وأخطأوا، وإن اجتهاداتهم كانت مرتبطة بوقائع ومستجدات عصورهم -من ناحية- وبدرجة تكوينهم الثقافى من ناحية أخرى».. (الصفحة 17) ويكاد محمود إسماعيل يسد الطريق على معارضى هذه الفكرة فيقول «هذا الحكم ليس من اجتهادنا، بل هو منسوب إلى فقيه وفيلسوف كبير هو ابن رشد، ومثبت فى سفره العظيم بداية المجتهد ونهاية المقتصد».
ويواصل محمود إسماعيل تقديم حججه فيقول «التراث الفقهى الإسلامى ليس مقدساً ومن ثم يمكن تجديده أخذاً بمبدأ الاجتهاد، ولقد قدم القدماء والمحدثون تعريفاً لعلم الفقه بأنه علم استنباط الأحكام، والاستنباط أحد أصول علم المنطق الذى استفاد منه الفقهاء الأوائل فى تأسيس علم الفقه» وهنا أستأذن القارئ والدكتور إسماعيل فى أن أمسك بوجه الخلاف الحقيقى بين محاولات التجديد اليائسة التى تقوم بها المؤسسات الدينية وبين ما يقترحه إسماعيل، فالأزهر مثلاً يعتبر أن واجبه المدرسى هو تدريس الفقه كما هو، ومن هنا فإنه يغلق أبواب ونوافذ أى إمكانية لتجديد حقيقى، فهم يتمسكون بالأصل الفقهى نصياً وحرفاً بحرف ثم يحاولون عبثاً تجديد الخطاب المتعلق به، وأحيل الجميع إلى مثال واحد من مئات الأمثلة لكتب تدرس لطلاب المدارس والمعاهد الأزهرية، والمثال كتاب للشيخ فريد واصل لتدريس الفقه الشافعى لتلاميذ الثانية الإعدادية (بنات وبنين) ويأتى فى صورة «سائل ومجيب» وهو كتاب لا يليق تدريسه لا من ناحية أدب الكتابة فهو خادش للحياء بصورة فجة، إذ يطرح مثلاً «نواقض الوضوء فى حالات النكاح» ثم يكملها بما نسميه «الاستطرادات» أى أسئلة تتلاحق كل منها أقل أدباً وأفسد عقلاً وأكثر ابتعاداً عن العلم والعقل والخلق وروح المعاصرة. فكيف يمكن «تجديد الخطاب الدينى» مع التمسك المتشبث بتدريس معطيات الفقه كما كانت فى أزمنة سحيقة بما يستتبعه ذلك من إنكار للعلم والعقل والآداب العامة؟ وإلى هنا ودون تفاصيل تؤذى مشاعر القراء حتى كبار السن منهم، أعود إلى كتابة د. محمود إسماعيل بضرورة تجديد الفقه وليس تدريسه كما كان منذ قرون فجاً وخالياً من أى عقلانية، خاصة أن المنطق الذى بنى عليه مبدأ الاجتهاد فى استنباط الأحكام هو نفسه قد تعرض فى الزمن القديم إلى اعتراض جازم وغير عاقل يقول «من تمنطق تزندق». ونعود إلى محمود إسماعيل -وهو على حق إلى حد كبير- إذ يمايز بين فرعين من علوم الفقه «العبادات» و«المعاملات» ويقول «ولا نجادل فى أن العبادات لا تدخل فى باب التجديد، أما المعاملات فهى ما يمكن إعمال النظر فيه عن طريق الاجتهاد»، ثم هو يعود ليحذرنا «وليس الاجتهاد باباً مفتوحاً لمن هب ودب، بل هو مقصور على الفقهاء أولى الرأى والنظر، وإذ أقول الفقهاء فإنما أعنى الثابت فى الأدبيات الإسلامية عن الفقيه وهو المتعمق فى مجال من مجالات المعرفة، كما أن القدماء قد وضعوا أصولاً للاجتهاد ومفهومه وأبدعوا فى ذلك علم أصول الفقه» (الصفحة 18) ويؤكد محمد إسماعيل منطقه قائلاً «والفقه فى جوهره، فيما يتعلق بالمعاملات، من صنع البشر وليس من أصول العقيدة، وهو ثانياً قد خضع فى نشأته وازدهاره لمعطيات دنيوية، وأن مقولاته قد اختلفت حسب معطيات الزمان والمكان، ومن ثم تصدق مقولتنا عن تاريخية الفقه، فإذا كان ازدهاره نتيجة لفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، فإن انهياره قد نتج عن إغلاق هذا الباب. لذلك فإن قولنا بتجديد الفقه هو بالتحديد مطالبة بإعادة فتحه» (الصفحة 19).. ويمايز محمود إسماعيل بعد ذلك بين المذاهب الأربعة: مالك وأبى حنيفة والشافعى وابن حنبل (دون أن يشير إلى عشرات أخرى من المذاهب الفقهية التى لم تكتسب شهرة ولا اهتماماً لأسباب متعددة) المهم مايز إسماعيل بين هذه الأربعة وموقفها من الاجتهاد عموماً ومن الأخذ بالقياس خصوصاً، ويرجع ذلك إلى طبيعة المجتمعات التى نشأ فيها كل منها «فمالك يقلل من استخدام القياس لأن مجتمع المدينة كان من البساطة بما لا يستوجب الاجتهاد. وأبوحنيفة توسع فى اجتهاده لمواجهة أمور عديدة مستحدثة ومعقدة فمجتمع العراق كان قلب العالم الإسلامى. والشافعى أخذ موقفاً وسطاً بين نصية مالك واجتهاد أبى حنيفة لطبيعة المجتمع المصرى الذى كان آنذاك وسطاً بين هذا وذاك. وابن حنبل رفض مبدأ الاجتهاد فسد أمام نفسه طريق الرواج لعجزه عن مواجهة الواقع».
الفقه إذن جهد إنسانى وتجديده ضرورة لتجديد فهمنا للشريعة ومن ثم تجديد خطابنا حولها وبدون تجديد الفقه لا تجديد.
ونواصل.