«مجانية التعليم»، من الإنجازات التى يتم استدعاؤها، بمجرد ذكر اسم الدكتور طه حسين، صاحب شعار «التعليم كالماء والهواء حق لكل إنسان». وهو ذات المبدأ الذى تبنته ووسعته ثورة يوليو 1952، فجعلت التعليم مجانياً فى كل المراحل، بما فى ذلك الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه). المجانية كانت موجودة قبل الثورة، والدليل على ذلك أن طه حسين نفسه تعلم بالمجان، وإذا قيل إن عميد الأدب العربى تعلم فى الأزهر، والدراسة فيه مجانية، فقد كان التعليم فى الأساسى بالمدارس بالمجان أيضاً، يمكنك أن تراجع فى هذا السياق ما كتبه صاحب نوبل «نجيب محفوظ» عن مدارس ما قبل الثورة فى رواية «بداية ونهاية»، وكيف كانت المدرسة توفر الخدمة التعليمية والوجبة للتلميذ، إعمالاً لما نص عليه دستور 1923، وجاء قرار طه حسين ليمدد المجانية إلى التعليم الثانوى، ثم قامت الثورة، فشملت المجانية التعليم الجامعى أيضاً.
لا يختلف أحد على حالة التدهور التى بدأت تضرب التعليم، بداية من فترة السبعينات، وكيف تصاعدت حالة التدهور تلك خلال الحقب التالية، بشكل أصبح مثار قلق المجتمع ككل. لا خلاف أيضاً على أن عوامل عديدة ساهمت فى تكريس التدهور التعليمى، من بينها الفكر التعليمى الذى حكم الحكومات المصرية المتتالية، والسياسات التى تبنتها وزارة التعليم عبر تاريخها، وتأثيرها على مستوى الأداء داخل المدارس، والأخطر من ذلك العديد من الظواهر الاجتماعية التى بدأت تفرض نفسها على الحالة التعليمية فى مصر، وعمقت من تدهورها، من بينها إعلاء قيمة الشهادة على قيمة التعليم، والتفاقم المريع فى ظاهرة الدروس الخصوصية. فى كل الأحوال كانت أصابع الاتهام توجه إلى «المجانية» كسبب أساسى ومباشر لتدهور التعليم، خصوصاً من جانب المسئولين بالدولة، فى الوقت الذى كان يوجه المواطن سهام الاتهام إلى أداء التربية والتعليم والمدارس، وهو يتحدث عن حالة التراجع التى أصابت التعليم. من جانبى لا أجد أن إلصاق تهمة تدهور التعليم بالمجانية يتمتع بالدرجة المطلوبة من المنطقية أو الوجاهة، لأن حال التعليم فى المدارس الخاصة لا يقل سوءاً عن المدارس الحكومية، بل إن بعض المدارس الحكومية التجريبية تقدم فى بعض الأحوال خدمة أفضل، كما أن المواطن الذى يتوقف أمام أداء الحكومة يهمل النظر فى المرآة ليرى كيف يؤدى مع موضوع التعليم بشكل يثير الدهشة، يكفى أن أذكرك فى هذا السياق بمظاهرات أولياء الأمور ضد منع الدروس الخصوصية، وكذا ضد انتظام التلاميذ فى الحضور بالمدارس!.
منذ أيام تولى أمر التربية والتعليم الدكتور طارق شوقى، وهو رجل يمتلك رؤية محددة الملامح سبق وأعلن عنها فى أكثر من مناسبة للتعامل مع ملف التعليم. وجود الرؤية فى حد ذاته -بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع ملامحها- أمر إيجابى، لأن افتقاد الرؤية كان يمثل الفريضة الغائبة فى فكر الكثير من وزراء التعليم فى مصر. كل ما أرجوه أن يطرح الدكتور «شوقى» هذه الرؤية بشكل محدد وسريع، ليتيح أكبر قدر من الحوار المجتمعى حولها، حتى يتصالح الجميع على خارطة طريق يمكن أن تؤدى إلى تطوير التعليم. والكل متفق على أن إصلاح التعليم -سواء المجانى أو المدفوع- يمثل الخطوة الأولى والمقدمة الضرورية لتحقيق الإصلاح فى كافة مناحى الحياة فى بر مصر.